لئن تحدث المؤرخون مؤكدين أن العصبية «العروشية» كانت معتمدة كسلاح ضد الغزوات وكترسيخ لروح أواصر القرابة وصلة الرحم فإن هذه «العروشية» وبعد قرون وعشرات العقود أصبحت مرفوضة في ظل مجتمع متماسك ومتحضر كرع من مناهل العلوم والثقافة ما أصّله ليكون ناضجا وواعيا ومؤمنا بأن العالم ككل أصبح قرية يتيسّر فيها التخاطب السريع والتلاحم المتناغم والتعاون الناجع خاصة ان الانسان يؤمن بإنسانيته ويدرك ان اي انسان وفي كل أصقاع الدنيا يستطيع التعامل والتكامل مع أي انسان آخر ومهما كانت لغته وجنسه ودينه والقارة او البلد الذي يعيش فيه خدمة للإنسان وترسيخا للمستوى الذي أدركته البشرية جمعاء وبالتالي فإننا وعندما تصلنا أخبار تفيد بأننا مازلنا نعيش «العروشية» وبشكلها المقيت والمتخلف وحتى المعقّد فإننا نصاب بالاحباط ونشعر بالألم والمرارة خاصة ان بلادنا جغرافيا تعتبر صغيرة وكل مدنها وقراها يمكن الوصول اليها في رحلة لا تدوم أكثر من يومين وفي أقصى الحالات ثلاثة أيام.. كما ان التصاهر جمع كل العائلات تقريبا وقرّبها بشكل كبير جدا مما جعلني شخصيا وعند زيارة موطني خاصة في أيام الاعياد المباركة أرى في منزلنا فقط فسيفساء من اللهجات حيث (لهجات المناجم والجريد وقفصة والقطار وصفاقس والساحل وبنزرت والعاصمة وغيرها) فضلا عن اللهجات الاخرى التي أسمعها في المدينة والتي تترجم الحضور الوطني ككل ومن مختلف الجهات والمناطق حيث الوسط والجنوب الشرقي والسباسب والشمال الغربي والشمال والوطن القبلي والساحل وغيرها وهو ما يعني ان كل ابناء الوطن متراصون ومنسجمون ومتناغمون ولهم التقاليد الواحدة حتى وان اختلفت في بعض جزئياتها. أما ان نسمع بما حصل في قصر هلال وقبله في القصرين وفي مكثر وفي السند وفي قفصة وفي أم العرائس ثم في المتلوي فإن المسألة تثير فينا جميعا الشعور بأن نار «العروشية» كانت تحت رماد وغطاء «التحضر» الذي اعتقدنا اننا بلغناه وأن بعضهم ومهما كان عددهم قليلا فإنهم مازالوا مؤثرين بعد ان كانوا يثيرون هذه «النعرة» في مؤتمراتهم الحزبية الضيقة وفي بعض الانتخابات سواء كانت البلدية او البرلمانية ولذلك ظلّ لا يصعد الى تلك المجالس الا من كان وراءه عرش أو قبيلة بعيدا عن الكفاءة والمستوى الثقافي والاشعاع وقنوات المدنية والاقناع. اقصاء الكفاءات... لماذا؟ والغريب ان بعضهم وهم من أصحاب المستويات التعليمية الكبرى والشهائد العليا انخرطوا في منظومة «العروشية» المختلفة وأصبحوا يركبون صهواتها لإيهام الناس بتوفر الشروط فيهم وهم في الاصل بعيدون بعد السماء عن الارض عن الثقافة المدنية والسياسية والاجتماعية حتى وإن كان عددهم صغيرا ولكنهم في المشهد كانوا حاضرين ولهم وزنهم مقابل اقصاء الكفاءات التي تتوفر فيها كل الشروط بسبب صغر «عروشهم» او عدم اعتمادهم ركوب هذه الصهوة «الهشة» والمختلفة جدا.. والحال ان كل مواطن تونسي ومن اي مدينة كانت يحق له الترشح لأي مجلس كان اذا توفرت فيه شروط الاقامة او العمل فضلا عن النقاط الاخرى من تلك الشروط وخاصة اذا تقدم بمشروعه وبرنامجه اللذين يمكن بهما اقناع المواطنين. أقنعة.. فتن.. وصهوات؟ قد تبدو المسألة خطيرة خاصة في مدينة المتلوي التي سقطت فيها الضحايا وتعرض الكثيرون فيها الى اصابات مجانية بسبب هذه «العروشية» وفتنها التي كنا نعتقد أننا تجاوزناها منذ عقود ولكن تم رفع الأقنعة وانكشفت الحقيقة لتبرز جلية مؤكدة أن «العروشية» وللأسف مازالت معششة في عقول البعض من «المؤثرين» (وللأسف أيضا) وبالتالي فإن المنطق وبقدر ما يفرض التعقل من مختلف الأطراف فإنه يفرض أيضا التصدي ل«العروشية» التي قد تظهر في مدن أخرى وبنفس السبب والتداعيات. هذه هي الأسباب؟ واذا عدنا الى السبب الذي أجّح الفتنة وغذى «العروشية» فإنه وبدرجة أولى العقلية.. والبؤس والبطالة والفقر والممارسات التي ظل يعتمدها البعض سواء في التجمع الدستوري الديمقراطي وقبله الحزب الاشتراكي الدستوري وكل هياكلهما أو أيضا في بعض «النقابات» التي كانت تستمد قوتها من هذه النزعة المتخلفة حتى أصبحت التركيبة وكأنها «عروشية» لا في المتلوي فقط وانما في المناطق المنجمية ككل وغيرها خاصة في ظل التغذية المستمرة من أصحاب النفوذ المدعمين من رموز «السلطة المخلوعة» جهويا ووطنيا وعلى مر السنين وذلك في شكل سرّي تتجلى نواياه وخلفياته.. وبالتالي فإن سلطة عهدي الفساد والاستبداد هي السبب الرئيسي في اثارة النعرة «العروشية» والجهوية المرفوضة والمرفوقة والمقيتة.. وللموضوع عودة وبقية.