من زمان....أبو العلاء المعري رسم ساستنا العرب في بيت من الشعر مأثور:«يسوسون الأمور بغير عقل... فينفذ أمرهم ويقال ساسة». نجيبه بالقول:« ان في بني عمك رماحا، ها هنا في تونس، نسوس الأمور بكل عقل... ما ينفذ أمرنا... ويقال فعلا ساسة...» نعم، ما نفذ الأمر أمرنا، بل بات من الواضح أننا تداركنا وضعنا السياسي في الدرجة الأولى، مع شيء من البطء نسبيا مقبول بعد هزة عنيفة لثورة لم يشهد مثلها التاريخ... سنتدارك كل الأوضاع الأخرى بحول الله، من الاجتماعي الى الاقتصادي الى غيره... كانت أوضاعنا تبعث فعلا على القلق... كنا نتخبط داخل صراعات بيزنطية ضمن حلقات مملوءة وفارغة في نفس الوقت تشكل داخل الساحات والشوارع والأحياء وصلب المنابر التلفزية والإذاعية، نبحث عن مخرج من الفوضى التي وجدنا أنفسنا فيها بعد شجاعة شعب منقطعة النظير، داهمت نظاما عاتيا فلفظته لفظ النواة خارج كيانه، محققة بذلك سلمه الذي أرق جفنه منذ سنين، وظهر جليا أن هذا السلم أنتج له راحة من كل النبعات التي كانت تكبله وتقبض على أنفاسه وتسد أفق المستقبل أمام ناظريه... سلمنا وللسلم راحة هذا لاشك فيه، ولكن لنعلم أن كل راحة تتبعها الفوضى وكل فوضى تؤدي حتما الى الخراب كما قال المنظر السياسي«ميكيافلّي» وكنا على شفى حفرة من ذلك الخراب...جميل وعلامة من علامات صحة مجتمعنا أن نرى كل واحد منا يغني ليلاه ولكن الى متى? هذا ماكان مطروحا في ذهن كل واحد فينا... كدنا نضيع وراء الليالي وفي الليالي، وكاد البرد يأخذ منا مأخذه ومازال الصيف في انتظارنا...لنقل كما قالت آخر نداءات السياسة الأمريكية«هذه هي الفوضى الخلاقة» : بعد طرد غريمنا الأزلي شرّ طرد، صحنا، غنينا ورقصنا، التحفنا بالعلم المفدى رداء واقيا لأجسامنا من فرط عزته ومكانته في قلوبنا، كتبنا على الجدران والأبواب واللافتات ماكتبنا... علقنا أحلامنا وأمانينا في أغصان الأشجار وأعناق الأطيار ما انتهينا...سمحنا لأنفسنا حتى بخلع الأبواب والنوافذ وهشمنا الواجهات البلورية زينة مدننا، وامتدت أيدينا للسلب والنهب دون أي رادع أخلاقي... قلعنا الأرصفة وتراشقنا رميا بما كسّرناه منها فأصبنا كبيرنا وصغيرنا وما انتهينا...بقايا غبار الثورة ما انفكت تقتل منّا أعز أبنائنا في عمر الزهور وما وعينا. لهذا الحد كنا أغبياء?? حدثني عمن شئت، أما أن تقول لي إن التونسي غبي فهذا مالا يقتنع به أحد... ما جاء من أقوال وتصريحات للسيد «الباجي قائد السبسي» الوزير الأول والأخير على رأس حكومة تصريف الأعمال والإنقاذ مفادها واضح وجلّي: كفانا انفلاتا وانسيابا، وبصريح العبارة، نقولها لبعضنا دون خوف ولا وجل: الكبح واجب مقدس في مثل هذه الحال...فرجوع هيبة الدولة بعد فقدانها يبقى بالنسبة إليه وإلينا جميعا مركز الاهتمام، أما بسط الأمن على كامل ربوع البلاد فهو من أوكد الضرورات... العقل يدعونا الى شيء منه «سياسة ضبط النفس»...لما لا? سياسة ضبط النفس مفتاح الحل، به ينشأ الرجوع الى النظام رويدا رويدا بعد هذه الفوضى الممكن وصفها بالخلاقة رغم خسائرها الباهظة والمؤلمة ولكنها مسحت الكثير من الشوائب العالقة، وصححت كما هائلا من المواقف في طريق الثورة المجيدة، حتى لا ننكر جهود ومثابرة الكرام من شبابنا الغالي...رجوعنا الى النظام بعد هذه الفوضى يؤسس الى شجاعة من صنف ثان، بها يستقيم الفعل الهادف الى اختيار الأسلوب السياسي الملائم لطينة مجتمعنا الجديد الذي يصبو الى آفق بعيدة ملؤها الحرية والديمقراطية وكرامة العيش.... حذرنا شبابنا قبل مغادرته ساحة القصبة بالحرف الواحد:« إن عدتم...عدنا» لا عودة في الأفق حسب ما تمت الاستجابة له من طلبات سياسية بالأساس على لسان الوزير الأول... انفتاح سياسي وفكري كامل وعمق في النظر والتحليل لا يسمح في أي حال من الأحوال الى شطحات الهزّ والحط أو التشكيك في ما سيتم الإقدام عليه من إصلاح وتغيير شامل لحياتنا السياسية... من المسلم به أن الفكر التونسي معروف بالبحث عن التميز في كل شيء، والتوق الى الكمال في الفعل، هذا يأتي تباعا مع الأيام، ونحن جاهزون في كل لحظة لوضع النقاط على الحروف متى استوجب ذلك... باختصار شديد، ملفنا السياسي مفتوح للإصلاح المرجو، فهل من رجال مصلحين حتى تتم عملية الانتقال الديمقراطي بكل ثبات ونجاح?? لا يتحقق هذا الرجاء إلا من خلال وفاق وطني كامل يضم جميع أطراف اللعبة السياسية في البلاد، هذه الأطراف مطالبة بتشكيل مجلس وطني تأسيسي منتخب يضع دستورا جديدا لجمهوريتنا المرتقبة، متوليا إدارة المرحلة الانتقالية باقتدار، مستجيبا للشرعية الشعبية، ملبيا ما تبقى من طلبات دفع ثمنها اعتصاما تلو الاعتصام، وهتافا تلو الهتاف لأيام وليال طويلة وباردة تحت زخات المطر...أما نظام الحكم، إن لم يكن برلمانيا كما ينادي البعض وفي حالتنا قد يصاب بعدم الاستقرار لكثرة الأحزاب ولربما عدم قوة البعض منها للحصول على نسب مائوية محترمة في الانتخابات، فإنه من المحبذ أن يكون نظاما شبه رئاسي موصوفا بالاعتدال والتوازن، تتقلص فيه صلاحيات الرئيس مع مبدإ الفصل بين السلطات... بذلك فقط، يقتنع الرأي العام التونسي وتنطلق الحياة من جديد في خضم سمفونية من عزف الشباب.