كنت أتمنى ألاّ أكتب في هذا الموضوع لأني كنت أتوقع في ظل الحكومة الجديدة، ومثلي كثر، أن تكون قائمة أعضاء المجلس حصيلة مشاورات جديّة وواسعة، وثمرة التعاطي بعقلانية وروية مع حقائق الواقع السياسي والثقافي الذي أنشأته الثورة وأن تكون من حيث الرمزية والتنوع والتمثيلية، وهو الأهم، معبّرة عن روحية خارطة الطريق التي بدت في قول الرئيس المؤقت السيد فؤاد المبزع: «إنّ مشروع القانون الانتخابي سيكون محلّ مشاورات صلب مجلس الهيئة، المتكونة من شخصيات سياسية وطنية، وممثلين عن مختلف الأحزاب السياسية والهيئات والمنظمات والجمعيات، ومكونات المجتمع المدني، المعنية بالشأن الوطني في العاصمة والجهات، ممن شاركوا في الثورة وساندوها». والتي ترجمها قولكم في المؤتمر الصحفي الذي عقدتموه للإعلان عن الحكومة الجديدة (7/3/2011) «سأعمل جهدي بعدم خسارة ثقة معتصمي القصبة الذين غادروا القصبة طوعا لما استلمت مسؤولية الحكومة». هذه الكلمة المفتاح التي لم تعرها، مع الأسف، وسائل الإعلام العناية التي بها جديرة، إنها تعبّر بوضوح، عن انحياز الحكومة للثورة، وتعلن دون لبس، أن ليس لها من برنامج سوى برنامجها، بل لا نجانب الصواب إذا قلنا إنها تختزل، في العمق، الرؤية التي ستحكم تعاطيكم مع متغيرات الواقع السياسي الذي صنعته الثورة، وأنّ بتكريسها ستكون جديرا بتلك الثقة، وأهلا لتحمل هذه الأمانة. بهذا العهد، وبهذه الروحيّة وبما توالى من منجزات، في ظرف قصير، حدثت الصدمة وانبنت جسور الثقة، فاختفت مشاعر الإحباط والخوف والريبة التي عانى منها الشعب التونسي وطلائعه الشبابية والتي كانت خلف التوترات والانفلاتات التي شهدتها البلاد في عهد الحكومة السابقة. لقد استعاد الناس الأمل وغمرهم شيء من الاطمئنان، ولاح لهم، ولأول مرّة منذ انتصار الثورة طريق النصر النهائي. بدا نهج حكومتكم مختلفا عن نهج الحكومة السابقة، التي كانت تموت في عجزها عن التحرّر من الثقافة السياسية «السبع نوفمبرية»، وفي إصرارها على تجاهل استحقاقات الثورة، واللافت أنّ العناصر المعارضة المشاركة في تلك الحكومة لم تفلح في تطعيمها (بمصل الثورة) بقدر ما أفلحت هي في حملها، وإلى حدّ ما، على الانخراط في أجندتها، والاستئناس بأساليب عملها. وجه الاختلاف بين حكومتكم، والحكومة السابقة لا يتمثل، فحسب، في تبنيها لمطالب الثورة وأجندتها من أجل استعادة الشعب لسيادته، وإنما تتمثل، أيضا، في السعي إلى إنجاز القطيعة مع ممارسات وأساليب عمل الحكومة السابقة. يبدو ذلك عندما أشهرتم مبدأ الشراكة في إدارة العمليّة السياسية، واخترتم نهج الوفاق، في معالجة المهمات الراهنة، وفضلتم الإنصات لنبض الشارع بدل الاستعلاء والإصرار على فرض الوصاية عليه. وأخيرا لا آخرا عندما احترمتم عمليا موقف الاتجاه الأغلبي في دوائر النخبة السياسية، والثقافية إنها جماع المبادئ التي لا مناص من الاهتداء إليها لمعالجة المأزق الدستوري والسياسي الذي تشهده البلاد، في ظلّ هذا الظرف الاستثنائي، ولصون الثورة من خطط المتربصين. لقد قدّمتم مثلا رائعا، ومنذ البدء، عن اهتدائكم بهذه المبادئ، وذلك عندما أعلنتم في المؤتمر الصحفي الذي عقدتموهم بعد تكليفكم بالوزارة الأولى (4/3/2011) (أنّ قرار الاتجاه لانتخاب مجلس تأسيسي كان مستمدّا من موقف الأغلبية الساحقة). كان من المأمول أن يترسّخ هذا النهج في التعاطي مع مختلف قضايا الملف السياسي وفي المقدمة، طبعا، وضع قائمة «مجلس الدفاع عن أهداف الثورة..». لكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل لأنّ الطريقة التي تمّ بها تشكيل تركيبة المجلس، وصورة هذه التركيبة، وما شابها من شبهات بنظر قطاع مهم من النخبة السياسية والثقافية وأيضا من جل الفعاليات السياسية والثقافية، المشاركة في المجلس كما اتضح في مختلف التغطيات الإعلامية لمجريات الجلسة الافتتاحيّة للمجلس، لم تشهد لذاك النهج بقدر ما ضربت، في العمق، صدقيّة الحكومة في الالتزام بالقيم المعلنة، وأحيت ذات الممارسات والأساليب التي انتهجتها الحكومة السابقة في التعامل مع المجتمعين السياسي والمدني. وإذا كان هناك من اجتهاد ففي تكريس تلك الأساليب، وليس في العمل على الإقلاع عنها. والسؤال ما هي الجهة التي دبّرت الأمر، أي التي قامت باختيار الأحزاب السياسية، وتنظيمات المجتمع المدني الذي سمح لها بالمشاركة في المجلس، وباختيار قائمة الشخصيات الوطنية. لقد نفى رئيس اللجنة السيد عياض بن عاشور المسؤولية عن الهيئة ورمى الكرة في ملعب الحكومة مؤكّدا أنّ التسمية تتم بقرار الوزير الأول. أثارت تركيبة المجلس، إذن، لغطا وجدلا وانتقادات، من جلّ الفعاليات السياسية، نقلتها مجمل وسائل الإعلام. البعض رأى أنّ الآلية التي تمت بواسطتها اختيار أعضاء اللجنة، تنتمي إلى أسلوب بن علي والحكومتين السابقتين مضيفا أنّ هذه التركيبة غير متوازنة، ولا تمثل حقّا الطيف السياسي والمجتمعي في تونس. البعض الآخر ركّز على غياب الشباب وممثلين عن الجهات بما يعنيه ذلك من تجاهل لدوره المحدّد في الثورة، بالإضافة إلى التمثيل الباهت لكل من الاتحاد العام التونسي للشغل، والهيئة الوطنية للمحامين، على الرغم من دورها الفاعل في احتضان الثورة، ومساندتها، والعمل على حمايتها. في حين يرى طرف ثالث أنّ الهيئة واقعة تحت تأثيرات غير واضحة معربا عن خشيته من تواصل مسار «الالتفاف على الثورة» ويذهب طرف رابع في ذات السياق إلى أنّ تركيبة المجلس حكمتها اعتبارات إيديولوجية وسياسية وثقافية. ويخلص من ذلك إلى «أنّها لا تعكس حقيقة الأفكار والمقاربات، التي ينبغي أن تتجه نحوها البلاد، خلال المرحلة المقبلة. كما يشتمل على أطراف معروفة بانتمائها للتيار ألاستئصالي والاقصائي»، علاوة على أنّ المجلس قد تمّ إغراقه بأشخاص، مورطين برأيه، مع النظام السابق مشيرا إلى ضرورة إقصاء كل من يثبت تورطهم في مناشدة الرئيس السابق الترشّح لولاية جديدة وكل من كان منتميا، أو متعاونا، مع الحزب المنحل، وكل الوجوه التي ليست لها علاقة بالنضال الديمقراطي وفي المقابل أعربت أطراف سياسية أخرى عن ارتياحها للمشاركة في المجلس ووصفت تركيبته بالإيجابية والمتنوعة، والجامعة لمختلف المرجعيات الفكرية والسياسية، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك، عندما اعتبرت أنّه سيلعب وبشكله الحالي، دورا هاما في العمل من أجل توفير الاستقرار السياسي. (يتبع) ٭ محمد الهاشمي الطرودي