وزارة التعليم العالى تطلق مكتبة افتراضية مدعومة بالذكاء الاصطناعي    الديبلوماسية التونسية تحتفل بيومها الوطني : التاريخ .. المبادئ .. الأهداف    عاجل/ الجيش الاسرائيلي يعلن إنتشاره في جنوب سوريا    ترامب ينشر صورة له وهو يرتدي زي البابا ..    سوسة: القبض على شخص مصنف خطير وحجز مواد مخدرة    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    استعدادا لعيد الإضحى المبارك وزارة الفلاحة توصي بتلقيح الحيوانات وتأمين أضاحي سليمة    دراسة جديدة: الشباب يفتقر للسعادة ويفضلون الاتصال بالواقع الافتراضي    البطولة العربية للرماية بالقوس والسهم - تونس تنهي مشاركتها في المركز الخامس برصيد 9 ميداليات    عاجل/ البحر يلفظ جثثا في صفاقس    شبهات فساد: قرار قضائي في حق وديع الجريء ومسؤولين آخرين.. #خبر_عاجل    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    عاجل/ ضحايا المجاعة في ارتفاع: استشهاد طفلة جوعا في غزة    الحكومة الإيرانية: نخوض المفاوضات مع واشنطن لأننا لا نرغب في نزاع جديد بالمنطقة    المأساة متواصلة: ولادة طفلة "بلا دماغ" في غزة!!    سيدي بوزيد: انقطاع الكهرباء في هذه المناطق    وفاة وليد مصطفى زوج كارول سماحة    بطولة الكويت : الدولي التونسي طه ياسين الخنيسي هداف مع فريقه الكويت    جندوبة: استعدادات لانجاح الموسم السياحي    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    التلفزيون الجزائري يهاجم الإمارات ويتوعدها ب"ردّ الصاع صاعين"    الولايات المتحدة توافق على بيع صواريخ بقيمة 3.5 مليار دولار للسعودية    السلطات الجزائرية توقف بث قناة تلفزيونية لمدة عشرة أيام    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    افتتاح مهرجان ربيع الفنون الدّولي بالقيروان    سعيّد يُسدي تعليماته بإيجاد حلول عاجلة للمنشآت المُهمّشة    الهند تحظر واردات كافة السلع من باكستان    التوقعات الجوية لليوم السبت    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحسّن وضعية السدود    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    البنك المركزي التونسي: معدل نسبة الفائدة في السوق النقدية يستقر في حدود 7،50 بالمائة في أفريل 2025    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باحث في التاريخ والحضارة ل«الشروق»: نعم، هناك مخطّطات لتعكير المناخ الاجتماعي وزرع الفتنة
نشر في الشروق يوم 11 - 04 - 2011


تونس ( الشروق):
لا تزال القراءات بخصوص حدث ثورة 14 جانفي تتواتر وتتتالى من مصادر عدّة ذات صلة بالاختصاص السياسي والدستوري والحضاري والإنساني بحثا عن التحاليل والمقاربات وتفسير الأحداث التي حصلت ومآلاتها حاضرا ومستقبلا على جملة الأوضاع في البلاد.
«الشروق» تلتقي اليوم مع أحد المختصين والباحثين في التاريخ والحضارة وهو الدكتور نصر الدين القادري (أصيل الرقاب من ولاية سيدي بوزيد)، حائز على الدكتوراه من جامعة السوربون بباريس في اختصاص الحضارة والتاريخ، تعرّض للاضطهاد والهرسلة خلال حكم بورقيبة بسبب نشاطاته السياسية وأفكاره السياسيّة والنقابية داخل الجامعة وعلى أعمدة الصحافة، أطرد من الدراسة فالتجأ إلى التدريس لكنه أطرد من جديد فقرّر السفر إلى باريس بإمكانياته الذاتية للدراسة وللتخلّص من الحصار الذي ضربه حوله البوليس وأعوانه ولبناء نفسه. في باريس نشط في المنظمات المناصرة للقضية الفلسطينية وفي إطار الاتحاد العام لطلبة تونس حيث تحمل عدة مسؤوليات، فقد انتخب ممثلا للطلبة التونسيين في باريس في مؤتمر 18 الخارق للعادة عام 1988 ثم انتخب عضوا في مجلس إدارة جامعة السوربون عام 1992، درّس في باريس ثم قرّر العودة إلى تونس للاستقرار بها.
التقينا الدكتور القادري لمدنا برأيه في الثورة وتداعياتها من زاوية التاريخ والحضارة فكان الحوار التالي:
كيف تنزلون ثورة 14جانفي ضمن سياقها التاريخي والحضاري؟
تاريخنا حافل بالثورات والانتفاضات وبالمشاريع الإصلاحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فمن ناحية التنظيم السياسي والمؤسساتي يمكن أن نقول إن تونس تعتبر رائدة في هذا المجال. فهي أول دولة في العالم يوضع فيها دستور (قانون قرطاج ) الذي تحدث عنه الفيلسوف الإغريقي أرسطو بإسهاب في كتابه «السياسة» والذي أثار الكثير من الجدل في أوساط فلاسفة الإغريق حينذاك. هذه البلاد كانت أيضا سبّاقة في ميدان الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد ألغت تونس الرق سنة 1846 قبل العديد من الدول الأوروبية والأمريكية وتم وضع دستور في البلاد العربية وهو ما يعرف بعهد الآمان عام1857. يمكننا أيضا ذكر إصلاحات خير الدين باشا التونسي الاجتماعية والسياسية في القرن التاسع عشر وأطروحات الطاهر الحدّاد في مسألة حرية المرأة والطبقة الشغيلة في بداية القرن الماضي وما قام به بورقيبة من تحديث في ميدان التعليم وتحرير المرأة والتنظيم الأسري ومن إلغاء لتعدّد الزوجات.
بالإضافة إلى هذا فالتونسي متفتح بطبعه على الثقافات الأخرى ومتفاعل معها. كلّ هذا التراكم الحضاري جعل منه إنسانا واعيا جدا وقلقا جدا فهو كثير التذمّر وصعب إرضائه فهو طموح ولهذا ليس مستغربا أن تنطلق هذه الثورة من هذه البلاد وأن تصبح مثالا يحتذى.
لماذا نجحت الثورة التي انطلقت من سيدي بوزيد وفشلت سابقاتها مثل انتفاضة الحوض المنجمي وبن قردان؟
الثورة التي انطلقت من سيدي بوزيد وانتشرت كانتشار النار في الهشيم, سبقتها انتفاضات مهّدت لها قام بها أحرار الرديف وبن قردان لكنها لم تقدر على التحول إلى ثورات. تمكّن النظام المخلوع من إجهاضها لأنها وقعت في مناطق حدودية معزولة نسبيا فتمكّن من خنقها إعلاميا والحدّ من مدّها الجماهيري. وقعت انتفاضة الرديّف على الحدود الجزائرية كما وقعت في بن قردان على الحدود الليبية. أمّا سيدي بوزيد فهي قلب تونس وتقع في وسط البلاد وهي بامتدادها الجغرافي تتوسط ولايات القصرين وقفصة وصفاقس والقيروان وبحكم التقارب الاجتماعي والجغرافي بين هذه الولايات امتدت هذه الثورة حتى بلغت كل تراب البلاد فأطاحت بالنظام.
من قام بهذه الثورة هم أحرار هذا الوطن الذين مازالوا يفتخرون بثورة علي بن غذاهم ويتغنّون بملاحم الدغباجي ويتحدثون في جلساتهم ومسامراتهم عن بطولات مصباح الجربوع ومحمد بشلولة، وبكثير من الحسرة والألم يتذكرون تضحياتهم أثناء ثورة 1952 وكيف جوبهوا بالجحود والنكران والتهميش بعد أن أقصاهم بورقيبة وجماعته. ثم جاء بعده بن علي فسار على منوال سلفه وكرّس التقتيل والتهميش والتّفقير والسؤال اليوم هل ستقطع حكومة السيد الباجي قائد السّبسي مع الأسلوب البورقيبي في تعاملها مع هذه الجهات أم أن قدر سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وكل المناطق الدّاخلية هو النسيان وعليها أن تظلّ كذلك إلى الأبد؟ للأسف الحاضر لا يبشّر بتغيير للنمط القديم في التعامل مع هذه المناطق واحتياجاتها. إلى حدّ الآن لم يقم السيد الوزير الأول بأي زيارة لهذه الولايات (الحوار أجري قبل زيارة باجي قائد السبسي للقيروان) والحال أنّه رجل متمرّس في السياسة ويدرك جيّدا القيمة الرّمزية لحضوره شخصيا بين أهالي هذه المناطق المنكوبة.
ما دمتم تتحدثون عن هذه المناطق كيف السبيل إلى تطويرها؟
سيدي بوزيد, الرقاب, المكناسي, القصرين, تالة على سبيل المثال لا الحصر هي مناطق مهمّشة وفقيرة جدا لكنها لا تنتظر صدقة من أحد ولا وصاية من أحد أيضا. هي مناطق تعتمد على الفلاحة كنشاط اقتصادي رئيسي, لكن ليس محكوما عليها أن تظل تنتج البطاطا إلى الأبد. ينبغي مساعدتها على تنويع نسيجها الاقتصادي عبر جذب الاستثمار الصناعي والسياحي اليها والاعتناء بها من الناحية الثقافية والاجتماعية. يجب قبل كل شيء تهيئة البنية التحتية من طرقات سيّارة وجسور وبناء المستشفيات وتجهيزها والاهتمام بالمواقع الأثرية التي تزخر بها ومازالت تنتظر من يرفع عنها التراب ويبرز جمالها للعيان وتركيز كل المصالح الإدارية والبنوك. ينبغي أيضا تحفيز الشباب وتشجيعه على الاستثمار كل الشباب وليس الشباب الجامعي فقط وذلك بمنحه قروضا بلا فوائد على أن تتكفّل الدولة بتسديد تلك الفوائد إلى البنوك المعنية. وللتأكد من حسن استغلال تلك الأموال ينبغي على المصالح المختصة إرشاد المستثمر الشاب ومواكبته في كل مراحل المشروع.
هذا من الناحية الاقتصادية. أمّا من الناحية السياسية فقد عانت هذه المناطق من التهميش ومن انتهازية النظام البائد منذ عشرات السنين. ولإصلاح هذا الخطأ ولإسماع صوتها ينبغي مضاعفة عدد ممثليها في البرلمان ثلاثة أوأربعة أضعاف. فسيدي بوزيد مثلا تستحق أن يمثلها 12نائبا على الأقل والأمر سيان بالنسبة الى القصرين وكل المناطق التي عانت التهميش والإهمال.
هناك تخوّفات من فشل الثورات في تونس وفي العالم العربي، كيف ترون سبل إنجاحها وتحقيق أهدافها؟
هناك من يريد الالتفاف على الثورة ومصادرتها من أصحابها الحقيقيين. ما ألاحظه من مناورات على الساحة السياسية وأطروحات تمجّد الحقبة البورقيبية يجعلنا نخال أن البورقيبيين هم من ثاروا على نظام بن علي وأنهم استردوا حقهم في السّيادة على هذا الشعب الذي ضحّى بالغالي والنفيس من أجل أن يتحرّر من الاستبداد والتنكيل.
مرحلة المجاهد الأكبر ليست كلّها براّقة ونظيفة. لقد شجّع على تحرير المرأة لكنه استبدّ بالشعب ونكّل بمعارضيه. لقد اهتمّ بالشريط السّاحلي لكنّه أهمل الجهات الدّاخلية. لقد حفّز على التعليم لكنّه كمّم أفواه المثقفين الأحرار.
هذه الثورة التي فجّرها شباب تونس وزلزلت كراسي الحكام وأيقظت إرادة الشعب العربي هي ملك لشعبنا من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه ولا يمكن سرقتها أو الالتفاف عليها. هي مازالت في بدايتها ولم تنجز الاّ انجازا وحيدا وهو كسر حاجز الخوف. لكي تنجح هذه الثورة في تونس ينبغي أن تتوفّر شروط وعوامل ذاتية وموضوعية لأنه لا يكفي أن نزيل نظاما ونضع في مكانه نظاما آخر لنهتزّ فرحا ونقول نجحنا في استرجاع بلدنا من المغتصبين والمفسدين. ينبغي علينا القطع نهائيا مع نظام بن علي البائد ومع أساليب الحكم البورقيبي ومع عقليتنا القديمة والعقيمة.
ذكرتم عوامل موضوعية وذاتية فما هي هذه العوامل الموضوعية؟
من الناحية الموضوعية, ينبغي على الحكومة تطهير كل مؤسسات الدولة من كلّ العناصر التجمّعية ومحاسبتها وحرمانها من الترشّح لأي انتخابات لمدّة 5 سنوات على الأقل. كما ينبغي على المجلس التأسيسي تحرير دستور جديد ينصّ صراحة على إقامة نظام برلماني للحيلولة دون عودة النزعات السلطوية الفردية والنرجسية المقيتة، ولحماية الأقليات البرلمانية من تعسّف الأغلبية من الضروري بعث مجلس دستوري أعلى مستقل له القدرة على تقييم أداء البرلمان والتدخّل إذا لزم الأمر لإلغاء قرارات تبنّتها الأغلبية البرلمانية عندما يراها غير دستورية أو مخالفة لروح الدستور. لبناء تونس على أسس سليمة ولحماية حرّية الرّأي ولتشجيع الاستثمار والقضاء على البطالة يجب تكريس استقلالية القضاء بعد تطهيره طبعا, لأنه لا سلم اجتماعية ولا استثمار اقتصادي بدون عدل, لأن المستثمر المحلي أو الأجنبي في حاجة الى الاستقرار الاجتماعي والسياسي ولقضاء نزيه لحماية حقوقه المادية والمعنوية.
على المستوى الوطني نتمنى القطع مع سياسة التهميش للجهات الداخلية التي للأسف مازالت سائدة. فلجنة حماية الثورة والإصلاح السياسي مثلا احتكرتها قلّة من الأحزاب وبعض الأشخاص أكثرهم من حلفاء وأنصار نظام بن علي الفاسد ووقع غض الطرف عن الجهات التي بادرت بالثورة وقدّمت خيرة شبابها قربانا لها. لسائل أن يسأل ألا يوجد في سيدي بوزيد والقصرين أشخاص أكفّاء للمساهمة في تأسيس حاضر بلادنا ومستقبلة السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. . إلى متى سيظل البعض ينظر إلى هذه المناطق بدونية وينصّبون أنفسهم أوصياء عليها؟؟
أما على المستوى الاقليمي والعربي ينبغي علينا أن نندمج أكثر في محيطنا العربي الإسلامي وأن نفعّل فكرة الوحدة المغاربية في انتظار أن يحقق أبناؤنا الوحدة العربية لان في ذلك فوائد كبيرة جدا سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا لا يكفي هذا المجال لتعدادها .
وما هي العوامل الذاتية؟
لا بدّ من تغيير النفوس وهذا ليس بالأمر اليسير ولا يحدث بين عشية وضحاها. لقد تضرّرت نفسية التونسي كثيرا من ممارسات النظام السابق المافيوزية ومن سرقة للمال العام واستغلال النفوذ والظلم ومصادرة للأرزاق بغير وجه حق واستغلال الوشاية للإيقاع بمعارضيه. للأسف أصبحت للكثير من التونسيين عقلية انتهازية ونفعية لا تعترف إطلاقا بالقيم والأخلاق التي صهرت مجتمعنا العربي الإسلامي طوال قرون. هذه الممارسات انعكست سلبا على عقلية التونسي فانتفت فيه روح المواطنة وغرست فيه نزعة اللامبالاة تجاه الوطن وتجاه بعضنا البعض وغرست فيه أسلوب تدبير الرأس وأصبح مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة هو السائد.
اليوم يجب علينا أن نثور على أنفسنا. لقد أنجزنا الثورة الصغرى وينبغي علينا أن ننجز الثورة الكبرى : ينبغي القطع مع عقليات التواكل واللامبالاة والأنانية المتغلغلة في النفوس والتي مازالت تحدّد نظرتنا للواقع ولمسؤولياتنا تجاه وطننا وتجاه بعضنا البعض. ننتظر من ثورتنا أن تحقّق لنا الحرّية والرفاهية المادية وهذا لا يتحقّق إلا بالقبول بأن الاختلاف لا ينبغي أن يفسد للودّ قضية وبالعمل الجادّ وبيقظة الضمير وان نبني هذه البلاد كما لو كنا نبني بيتنا وأن نحبّ لغيرنا ما نحبّ لأنفسنا. ينبغي أن نتخلّى عن عقلية رزق البيليك وأن نقتدي بأجدادنا الذين بنوا تونس في الفترة التي أعقبت الاستقلال. رغم ضآلة الإمكانيات المادية والمعرفية المتاحة ورغم الفقر والأمية كان الوازع الوطني قويا جدا؛ فقد أهدت جدّاتنا ما تملك من حلي للدولة وعلّم المدرّسون أجيالا بإخلاص وشيّد العمال المعامل والمساكن بتفان. . فماذا سنفعل نحن وماذا سنقدّم لهذه الثورة الفتية حتى يقوى عودها ؟
بحكم اختصاصكم واطلاعكم على التاريخ الغربي هل من مقاربة بين التحولات الجارية في العالم العربي (تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن إلخ . . ) والسياق الغربي؟
ما سأقوله قد يفاجئ البعض. فقد تعودنا على الخطاب الغربي الذي يتعامل مع العرب بتعال وبغرور. هذا الغرب الذي بوّأ نفسه أستاذا يعلّمنا مبادئ الحقوق المدنية والكرامة الإنسانية. هذا الخطاب يجانب الحقيقة . يخطئ الغرب عندما يجعل من فلاسفة الأنوار ملهما لثوراته التي أنتجت هذا التطور المؤسساتي الذي يعيشه الآن ويعمل جاهدا على تصويره كإنتاج غربي خالص. في فرنسا مثلا: كانت الثورة على طغيان الكنيسة ورجال الدّين اللذين استعملا الدين والمقدّس لاستعباد البشر. وكانت الثورة على السلطة السياسية المتجبرة والإقطاع الذي أذلّ الإنسان وحوّله إلى حيوان في خدمة السيّد. من أين جاءتهم فكرة الحرّية والعدالة الاجتماعية؟ من أتاهم بفكرة أن الكرامة حقّ لا يمكن المساومة فيه؟ الغرب يخجل في العادة من الحديث عن القرون الوسطى ومآسيها ويبخل عن ذكر ما تعلّموه من عرب الأندلس وما حمله أحفاد من قاموا بالحروب الصليبية الذين نشؤوا في الشرق العربي الإسلامي وتطبّعوا بطبيعة المسلمين وبأسلوبهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ثم عادوا إلى الغرب بعد هزيمتهم أمام صلاح الدين الأيوبي. هؤلاء كانوا أبناء البيئة الإسلامية ولم يعرفوا غيرها. هؤلاء كانوا مسلمين حتى وان حافظوا على تسمية أنفسهم بالفرنج المسيحيين: أخلاقهم ومعاملاتهم ومبادئهم كلها ابنة البيئة الإسلامية. هؤلاء هم الذين ألهموا المفكرين والناس البسطاء بأن الحياة ستكون أجمل لو تخلّصوا من عبودية الاقطاعي وتسلّط رجل الدين وظلم الحاكم. وبتحريض منهم تبنى بعض المفكرين أفكارهم ومبادئهم (الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والشورى) التي حملوها معهم من بلاد الإسلام ونشروها. خلاصة القول: مبادئ ما يعرف بالديمقراطية هي من إنتاجنا ونحن من علّم الغرب كيف يبني مؤسساته الديمقراطية ويطوّرها لكننا تخلينا عنها وأمضينا وقتنا في تأليه الحاكم والتمسّح على أعتاب أصحاب النفوذ.
يتنازع تياران مرحلة ما بعد الثورة في تونس : خط علماني لائكي وخط عروبي إسلامي. كيف تنظرون إلى هذا التنازع ؟
نحن نعيش مرحلة تأسيس للمستقبل وللإطار الذي سنعيش فيه وسيعيش فيه أبناؤنا ومن الطبيعي أن يحدث مثل هذا الجدل وهو شيء صحي يدل على حيوية المجتمع. اللائكية ترتكز أساسا على فصل الدين عن الدولة أي أن تكون الدولة محايدة في تعاملها مع الشأن الديني وينحصر دورها في حماية حرية الرّأي والمعتقد. فهو يلغي كل تمييز بين الأديان من جهة وبين المتدينين وغير المتدينين من جهة أخرى ويتلافى كل ما يمكن أن يخلق الصراعات بينهما وبذلك يضمن وحدة المجتمع.
لكننا في تونس لسنا معنيين بهذا الطرح لأن ما يتناسب مع مجتمعنا هو مبدأ فصل الدين عن السياسة. نظام فصل الدين عن السياسة له فوائد جمّة من ذلك أنه يفسح المجال للعقل أن يتحرّر من سلطة المقدّس والعادات والتقاليد البالية ويحفّزه على الاجتهاد في التعامل مع جميع المسائل والأزمات التي تعترض مسيرة المجتمع دون قيود وبكل جرأة وحرّية. ينبغي أن نعيد للعقل سلطانه وهيبته حتى يتمكّن من تناول كل المسائل بالبحث والنقاش دون مركّبات أو حواجز وهكذا يتطوّر المجتمع. لا يمكن لمجتمع أن يتطوّر في ظلّ الفتاوى التي تعتبر كلّ ابداع بدعة ولا حداثة بدون إبداع ولا إبداع بدون حرّية. نحن بلد عربي إسلامي والتنصيص على ذلك في الدستور أمر بديهي . حسب رأيي ينبغي أن لا نحشر الدين في السياسة ونستعمله كمطية للاستبداد لأنه في هذه الحالة سنحتاج إلى ثورة جديدة للتخلص من سلطة رجل الدين والحاكم الذي يحكم باسم الدين مثلما حدث في فرنسا عام 1879.
هل يمكن تطبيق منهجية لائكية غربية في محيط تاريخي وحضاري طبع بالبصمة العربية الإسلامية؟
في أوروبا وفي فرنسا تحديدا جاء فصل الدين عن الدولة نتيجة تسلّط رجال الدين على الحكم وعلى الملوك الذين كانوا يحكمون شعوبهم باسم الرب . للتذكير فقط في فرنسا الدين ليس مفصولا عن الدولة بشكل كامل لأن منطقة الألزاس واللورين كانت تحت الحكم الألماني عندما صدر قانون فصل الدين عن الدولة عام 1905 وبما ان القانون في فرنسا لا يمكن أن يطبق بشكل رجعي فإن هذه المنطقة ظلّت غير معنية بهذا القانون الى حد الآن رغم عودتها للسيادة الفرنسية اثر نهاية الحرب العالمية الأولى.
تونس لن تنسلخ عن جلدتها ولن نتنكّر لحضارتنا وديننا كما لا يمكن أن نتنكّر لفلسطين ولأشقائنا في كل الأقطار العربية الذين حذوا حذونا وتمرّدوا على جلاّديهم ولن نستقيل عن النضال من أجل الوحدة العربية. المطلوب في تونس هو فصل الدين عن السياسة حتى نضمن حرية الرأي والمعتقد وحتى يتمكن الناس من الحوار بندّية. فكيف يمكن للحوار أن يستقيم عندما تحاور إنسانا وظّف نفسه ممثلا للمولى عزّ وجلّ على الأرض أو إقناع شخص يكفّر كل من يخالفه الرأي. كيف يمكن للعقل أن يبدع إذا سجناه وجعلناه يجترّ فكر السلف الصالح دون نقد وجعلناه يتبنى قراءات علماء الفقه والسنّة الأقدمين دون تمحيص . التاريخ العربي الإسلامي علّمنا انه عندما نلغي العقل تصاب عجلة الحضارة بالركود. في القرون الأولى للإسلام عندما كان التفكير متاحا والاجتهاد في المسائل الدينية مجازا أنجبت الأمة الإسلامية مئات العلماء في ميادين مختلفة. وقد أثّر هؤلاء في الحضارة العالمية أيّما تأثير وآثارهم تدرّس الى حد الآن في أشهر الجامعات في العالم. أذكر على سبيل المثال لا الحصر ابن الهيثم الذي أبدع في علم الفلك والخوارزمي في الرياضيات والرّازي في الطب وابن البيطار في الصيدلة وابن رشد في الفلسفة وغيرهم كثير. أما بعد غلق باب الاجتهاد فقد أصاب الأمة الجدب ولم تنجب إلا عالما واحدا هو عبد الرحمان ابن خلدون.
وماذا عن الثورات العربية الأخرى ؟
للأسف مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي عملت على بلورته والتخطيط له الإدارات الأمريكية المتعاقبة هو الآن في طور التنفيذ. بعد تقسيم السودان, جاء الدّور الآن على ليبيا المهدّدة بالتقسيم ونستشف ذلك من تصريحات الزعماء الغربيين الذين أعلنوا أن هدفهم ليس إسقاط النظام الليبي وإنما إيقاف تقدّمه في اتجاه بنغازي والشرق الليبي. الرّئيس الفرنسي ساركوزي صرّح أن الضربات الوقائية ستتوقف حالما يتوقف القذافي عن مهاجمة الثوار. الوضع على الأرض سيفرز دويلتين على الأقل, وهذا سيخدم مصلحة إسرائيل والدول الغربية الطّامعة في البترول الليبي ذي الجودة العالية. أما بالنسبة الى اليمن فإن التقسيم هو الهدف الأساسي من كل ما يجري الآن وقريبا سيأتي الدور على سوريا.
هل تتماشى العقلية التونسية مع الممارسة الديمقراطية؟
هنا يكمن بيت القصيد. الآفاق تبدو غامضة لأن المؤشرات الرّاهنة تدعو الى الحذر واليقظة من أجل تلافي المحاصصات الأنانية والنخبوية والتشدّد الإيديولوجي الذين يكرّسون الانقسام بدل التكاتف والتلاحم من أجل بناء مؤسسات قوية تكون خير حام لمكتسبات الثورة. كما نلاحظ بكلّ استغراب ممارسات إقصائية لبعض الجهات وركوب الكثير من الانتهازيين على الثورة بعد أن كانوا يتفرجون على المجازر التي ارتكبها النظام المخلوع وميليشياته. كما نلاحظ بكلّ قلق الخطاب السياسي المتشنّج للحركات والأحزاب الدينية ونخشى أن تصاب تجربتنا الديمقراطية الفتية بانتكاسة قد لا تتمكن بعدها من النهوض. لا نريد أن يصبح ضحيّة الأمس جلاّد اليوم وأن تنتج ثورتنا دكتاتورية باسم الدين. لابد من منع أي نشاط سياسي داخل المساجد إذ لا يعقل أن لا تجد أحزاب الإمكانيات المادية لكراء قاعة لعقد اجتماع لها في حين تستغلّ الحركات الدينية المساجد لعقد اجتماعاتها 5 مرات يوميا زيادة على عقد اجتماع ضخم يوم الجمعة.
صحيح لقد أنجز شعبنا ثورة أطاحت بنظام بوليسي فاسد وألهمت العديد من شعوب الوطن العربي وحفزتهم على الانعتاق لكننا لم نبرهن بعد على نضجنا الوطني والسياسي وعلى أننا قادرون على المرور من الكلمة الحرةّ إلى بناء المؤسسات الحرّة. أولا لابد من عودة الاستقرار والانصراف للعمل حتى نجهض مخططات وآمال من يريدون تعكير المناخ الاجتماعي وزرع الفتنة وتحريك نعرات العروشية المقيتة. لا يمكن لهذا البلد أن ينهض ولمئات الآلاف من إيجاد عمل إذا انهار الاقتصاد أوبقي في حالة الركود التي يعيشها في الوقت الرّاهن, وما ظهور الأحداث بين العروش التي خلناها ذهبت مع التاريخ إلا تجسيد لحالة الوهن التي يعيشها اقتصادنا الآن. ثانيا لابدّ من انتظار الانتخابات القادمة لنرى مدى نضجنا ومدى حرصنا على هذه الثورة التي ضحّى في سبيلها شهداؤنا بأرواحهم. هل سنكون أوفياء لهم وحرّاسا أمناء لهذه الثورة أم أننا سننساق وراء مشاريعنا الحزبية والايديولوجية الضيّقة ؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.