أصبحت «العدالة الانتقالية» تمثل اليوم مطلبا هاما للحقوقيين وخبراء السياسة في تونس، باعتبارها شرطا أساسيا لتحقيق الانتقال الديمقراطي والانتقال السياسي المرجوين. وتتطلب العدالة الانتقالية اتخاذ اجراءات توفر اصلاح ما فسد في الماضي ومحاسبة من أذنب، وفي الآن نفسه توفر ضمانات بعدم تكرر مظالم النظام السابق التي استهدفت حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية والتوازن الجهوي. وعلى مرّ التاريخ، مرت حوالي 35 دولة بتجرية العدالة الانتقالية أهمها ألمانياالشرقية وبولونيا ورومانيا وبلغاريا وافريقيا الجنوبية وبعض دول أمريكا اللاتينية. وفي الدول العربية يبرز المثال المغربي للعدالة الانتقالية الذي جاء عام 2004 من خلال «لجنة الانصاف والمصالحة» وهي اللجنة التي كلفها الملك محمد السادس للتحقيق والتحري بشأن ماضي انتهاكات حقوق الانسان في المغرب من 1956 الى 1999 ولرد الاعتبار للضحايا وجبر الأضرار وصيانة الذاكرة الوطنية وتحقيق المصالحة الاجتماعية الشاملة...وقد أنهت هذه اللجنة عملها بعد حوالي عامين ورفعت تقريرا للملك ووقع تطبيقه وهو مالقي استحسانا داخليا ودوليا. وفي تونس ورغم أنه وقع بعث لجنتين الأولى للتقصي حول الفساد والرشوة والثانية للتحقيق في الانتهاكات والتجاوزات الحاصلة منذ 17 ديسمبر الا أن الحاجة اليوم متأكدة لبعث منظومة إرساء عدالة انتقالية يمتد عملها الى الانتهاكات والتجاوزات الحاصلة على امتداد 23 عاما وليس منذ 17 جانفي وتعمل وفق المبادئ العامة التي أرستها تجارب العدالة الانتقالية في عدة دول من العالم وكان مصدر من الحكومة المؤقتة قد أكد في الأسبوع الماضي خلال لقائه بوفدين عن «المؤسسة الدولية للمجتمع المنفتح» و«المركز الدولي للعدالة الانتقالية» حاجة تونس اليوم الى العدالة الانتقالية لكن ذلك رهين قرار سياسي قد يتطلب بعض الوقت والمهم أنه سيأخذ بخصوصيات المجتمع التونسي، مشيرا الى أن العدالة ليست غريبة عن تونس سواء كانت عدالة انتقالية أو عدالة أساسية... وبالتالي فان العدالة الانتقالية رهينة رغبة الدولة من جهة ورهينة مطلب شعبي من جهة أخرى. انتقام فوري! حسب تجارب الدول في مجال العدالة الانتقالية فان جانب المحاسبة للمسؤولين في النظام السابق عنى انتهاكات حقوق الانسان وانتهاكات العدالة الاجتماعية والجهوية والمساواة لا يجب أن يكون عبارة عن انتقام أو تشفيّ فوري بل يجب أن يأخد بعض الوقت بما يسمح بتهدئة الخواطر وب«برود ة الدما» وبلملمة الجراح أولا، وبتنظيم محاكمات عادلة تأخذ ما يلزمها من الوقت ثانيا وبالتالي فان الدعوة، التي نلاحظها بين الحين والآخر حول ضرورة استحثات نسق المحاسبة في أقرب وقت للمسؤولين عن انتهاكات الماضي لا تتماشى ومبادئ العدالة الانتقالية التي تتطلب حيزا زمنيا معينا. 5 مبادئ تقوم العدالة الانتقالية حسب التجارب العالمية على 5 مبادئ ضرورية لتحقيقها وهي: التأسيس للحقيقة، أي التحقيق والاستقصاء بشكل دقيق في التجاوزات الحاصلة في الماضي. التعويض للضحايا المتضررين بشكل مباشر أو غير مباشر من التجاوزات. ضمان مثول المتهمين أمام القضاء بشكل عادل يضمن مختلف درجات التقاضي ويضمن حقوق الدفاع اتخاذ إجراءات تغيير تضمن عدم تكرار ما حصل سابقا في المستقبل على غرار اصلاح قوانين حقوق الانسان واصلاح أجهزة الأمن... المصالحة العامة بين الشعب ومؤسسات الدولة لإعادة ثقة الشعب في النظام وبين الضحايا وجلاديهم... وبهذه المبادئ يمكن العودة الى النظام العادي للنظام السياسي وللسلط العمومية وإعادة هيبة الدولة والقانون. تعويض في مختلف تجارب العدالة الانتقالية تم وضع مختلف الآليات الضامنة للتعويض الأمثل لضحايا الانتهاكات السابقة... فاضافة الى التعويض المالي المباشر للضحايا نجد إعادة التأهيل والإدماج الاجتماعي للضحايا الذين فقدوا عملهم أو فرص عمل أخرى وضمان التغطية الطبية لهم كما أن الدولة مطالبة بالاعتراف بأنها أخطأت فعلا في حق هؤلاء الضحايا وفي حق المجتمع بشكل عام وبالتالي عليها اتخاذ اجراءات تعويض جماعي وجهوي للجهات التي تعرضت أكثر للظلم وظهرت فيها احتجاجات قوبلت بالقمع... ويكون هذا التعويض«الجهوي» من خلال التنمية ودفع عجلة النمو بتلك المناطق. سنوات يجمع كل المختصين في مجال العدالة الانتقالية أن هذه الآلية تتطلب عدة سنوات لتنفيذها على غرار ما حصل مثلا في جنوب افريقيا عندما جاء نظام نيلسن مانديلا للقطع مع نظام الميز العنصري أو في الشيلي والبيرو عندما وقع اسقاط الأنظمة الديكتاتورية أو في دول أوروبا الشرقية كرومانيا وبولونيا وبلغاريا وألمانياالشرقية. فالمهم هو تعجيل الحكومة باتخاذ قرار سياسي يقضي بتطبيق العدالة الانتقالية ثم على الشعب التونسي أن يمهل في ما بعد الجهة المشرفة على هذا العدالة لتقوم بعملها في الوقت اللازم حتى تحقق الغاية المرجوة من هذه الآلية.