٭ بقلم: الصغير الزكراوي (أستاذ القانون العام والعلوم السياسية) 1- هيئة منصبة فاقدة للمشروعية رحل بن علي تاركا وراءه إرثا شديد الوطأة يصعب حمله من بينها فكرة اللجان الرعناء التي أراد من خلالها الرئيس المخلوع معالجة مخلفات نظامه الاستبدادي الفاسد. وفي محاولة للبحث عن مخرج من الأزمة المستفحلة، حافظت الحكومات المؤقتة المتتالية التي اتسم أداؤها بالضعف وحضورها بما يشبه الغياب التام على هذه الفكرة اللعنة idée malédiction. وتعد اللجنة العليا للإصلاح السياسي التي أصبحت بموجب المرسوم عدد 6 المؤرخ في 18 فيفري 2011 الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي، أخطر هذه اللجان لما أوكل إليها من صلاحيات واسعة تعجز الأممالمتحدة بمنظماتها المتخصصة على الاضطلاع بها. ويلاحظ المتابع للشأن العام أن هذه الهيئة باشرت عملها مباشرة بعد هروب الرئيس المخلوع. وقد بادر رئيسها الذي تم تقديمه بصورة مبالغ فيها منذ تعيينه باختيار مجموعة من «خبراء» تعوزهم الخبرة على أساس المحاباة والزبونية والعلاقات الشخصية وهو ما أثار حفيظة الرأي العام آنذاك. وفي محاولة يائسة لترميم تركيبتها وإضفاء صبغة المشروعية على عملها تم توسيعها أكثر من مرة لتشمل مكونات المجتمع المدني من جمعيات وشبكات وممثلين عن الأحزاب وممثلين عن الجهات وشخصيات «وطنية» تم تصنيعها على عجل تبين في ما بعد أنها امتداد لأحزاب ممثلة داخل هذه الهيئة. ولم تفلح الحكومة المؤقتة التي ما انفكت تطنب في الحديث عن ضرورة رد الإعتبار لهيبة الدولة رغم محاولات الترميم من إضفاء تمثيلية على تركيبتها، وفاتها أن فاقد الشيء لا يعطيه. وقد حاولت اللجنة الهيئة في بداية عملها إجهاض الثورة والالتفاف على أهدافها ومحاولة مصادرة إرادة الشعب. فقد أكد رئيسها في أكثر من مناسبة بأن دستور 1959 جيد ويحتاج فقط إلى بعض التنقيحات وتخليصه من بعض الشوائب التي علقت به. وقد اختار نيابة عن الشعب وباسمه النظام الرئاسي وشرع في مراجعة المجلة الانتخابية والإعداد لتنظيم انتخابات رئاسية خلال اجل لا يقل عن ستة أشهر تليها انتخابات تشريعية. ويتذكر المتابع للشأن العام أن رئيس هذه اللجنة حاول تضليل الرأي العام من خلال التلويح بعدة سيناريوهات آخرها الدعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي. وتفطن شرفاء هذا الوطن من بينهم كاتب هذه السطور إلى هذه المؤامرة التي تهدف بالأساس إلى مصادرة إرادة الشعب. فما حدث في تونس هو ثورة، والثورة تقتضي القطع مع الماضي والتأسيس لنظام جديد تحكمه قيم جديدة. وتم فرض المجلس الوطني التأسيسي بوصفه الأسلوب الأمثل للوصول بالبلاد إلى بر الأمان. لكن تصر الهيئة مرة أخرى على إفراغ هذا الاستحقاق من أهدافه ومراميه. وأطلت علينا بنص هزيل على أكثر من مستوى كما سيلي بيانه. 2- تكريس نظام الإقتراع على القائمات بهذه التركيبة المطعون في تمثيليتها، انكبت هذه الهيئة على إعداد نظام انتخاب المجلس الوطني التأسيسي. والمتفحص لنص مشروع المرسوم يلاحظ انه تم اختيار نظام الاقتراع على القائمات وتوزيع المقاعد على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا. تجدر الملاحظة منذ البداية إلى أن نظام الإقتراع المثالي هو ذلك النظام غير المعقد تقنيا ويهدف إلى تحقيق العدالة والفاعلية وتكوين مجلس ذي أغلبية متجانسة. والمتأمل في النظام الذي وقع تكريسه هو غلبة هاجس الخوف من حزب النهضة، ولمجابهة هذا الخطر الداهم تحاول الأطراف المتصارعة في مجلس الهيئة الحد من إمكانية فوزها الساحق بتمكين الأحزاب الصغيرة من الحصول على بعض المقاعد باعتماد التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا. وهو ما يعني حسب مهندسي هذا المشروع أن « الأحزاب الكبرى» ستكون الغانم الأكبر بينما تحصل «الأحزاب الصغيرة» على البقايا. وجاء اختيار نظام القائمات ليلبي رغبة الأحزاب الفاقدة لأبسط مقومات الأحزاب والتي لا يعرف المواطن لا حجمها ولا برامجها هذا إن كان لها برامج أصلا. وقد غاب عن هؤلاء أن هذه الأحزاب لم يكن لها فضل في تفجير الثورة. وبالتمعن في هذا النظام الإنتخابي يتجلى انه لا يعدو أن يكون سوى اقتراع على الأفراد. فرئيس القائمة هو الأكثر حظا على الفوز أما بقية المترشحين فتبقى حظوظهم ضعيفة في الفوز بالمقاعد. وعلى ضوء ما تقدم يبدو الاقتراع على الأفراد الأكثر وجاهة وملاءمة لهذه المرحلة. في هذا النظام يقوم الناخب باختيار الشخص الأجدر خاصة ان انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي يشكل استحقاقا يدعى فيه الناخب إلى اختيار الشخص الذي سيدعى بالأساس إلى المساهمة في كتابة الدستور. وقد عمد المناوئون لهذا النظام إلى تقديمه بشكل مفزع : فهو يغذي حسب زعمهم القبلية ويؤدي إلى بروز الأعيان والوجهاء في الجهات les notables أي تجمعيي الأمس. كما انه سيفرض سطوة المال. وفات هؤلاء أن الإقتراع على القائمات لا يخلو كذلك من نفس هذه العيوب إذا ما سلمنا بوجودها في الإقتراع على الأفراد.