محمد بو عمود صحفي راكم وراءه تجربة في الصحافة المكتوبة الناطقة بالفرنسية تعود إلى بداية السبعينات، عمل في جرائد كثيرة ك«تونس هيبدو» ومجلة حقائق الجزء الفرنسي وتونس الإقتصادية وجريدة لورونوفو... فاجأ زملاءه من الصحفيين والإعلاميين منذ أربع سنوات بإنتاجه الأدبي والروائي، خاصة وأنه بدأ مغامرة الكتابة الإبداعية متأخرا نسبيا إذ يبلغ سنه الآن 58 عاما. واستطاع في هذه المدة القصيرة أن يفتك مكانه في الكتابة الروائية بالفرنسية إذ حصلت روايته «السيدة المنوبية» عام 2008 على جائزة مدينة الحمامات، كما حصلت روايته «وجوه» على الكومار الذهبي قسم اكتشافات عام 2009 وتحصلت على روايته «سنوات العار» على كومار التميّز عام 2010، ورشحت روايته «ما لم يقله الله» لمسابقة الكومار لهذا العام، وقد أصدر مؤخرا كتابا جديدا هو بمثابة التحية لشهداء الثورة عنوانه «البوعزيزي والشرارة التي أطاحت ببن علي»... محمد بو عمود كاتب خجول ومتوار في زمن التهافت على الإستعراضات النرجسية، عالمه الروائي يروي خصوصية هذا الرجل و فكان هذا الحوار. كيف يوفق محمد بوعمود بين الكتابة الصحفية وبين الكتابة الروائية والقصصية رغم أنه أكثر من إنتاجه الأدبي في لحظة تبدو متأخرة؟ إن المهمة ليست بالسهلة كما يتصور البعض. فمن يطلب منه إنجاز أربعة مقالات في الأسبوع في جريدة يومية ويصاب في لحظة من اللحظات خاصة في الليل بالقرف حين يتناول قلمه للكتابة الصحفية. غير أني وأنا المغرم بالأدب الذي تحولت فيه إلى صحفي منذ اليوم الأول كنت أحلم أن أكتب شيئا لنفسي وليس للآخرين الذين يتهمونني. ولقد دام هذا الحلم من عام 1988 إلى عام 2008 بشكل محض والحلم بالكتابة الأدبية. في ذاك العام (2008) أطلقت حمامات المدينة التابعة لمجموعة شركات بولينا الغذائية مسابقة للرواية التونسية باللغة العربية والفرنسية. كان من شروط المسابقة أن يكون موضوع الرواية شخصية تونسية ومن الأفضل أن تكون شخصية تونسية. فشاركت في هذه المسابقة بمخطوط روائي حول السيدة المنوبية. لم تكن رغبتي في ذلك الوقت إلا اختبارا لذاتي أقيسها مع الآخرين و قد حدث أن تم ترشيحي من بين 18 مترشحا باللغة الفرنسية للمسابقة الأدبية والتي تحصلت فيها على الجائزة الثانية. فيما تحصلت الرواية باللغة العربية على الجائزة الثانية. وأقول لك الحق لقد وثقت بنفسي وبكتابتي بفضل هذه الجائزة، ومنذ هذه اللحظة بدأت مغامرتي في الكتابة الروائية. أعود إلى الإجابة عن سؤالك بخصوص المراوحة بين الكتابة الأدبية والكتابة الإعلامية و أصارحك أنني في غاية من الفوضى. ولكن بشكل عام أكتب الرواية بعد منتصف الظهيرة حين أفرغ من العمل الصحفي. أنا لا أكتب الأدب في الليل كما تعود الكثيرون، أنا أصاب بالرهاب في الليل: كيف أكتب والناس نيام؟ أصدرت خمسة مؤلفات من عام 2008 إلى عام 2011، هل أنت مستعجل لهذه الدرجة؟ صحيح ما أنتجته كثير. ولكن هل تعلم أنني أبلغ من العمر 58 عاما في مثل هذا اليوم. وقبل ثلاثة أعوام لم أكتب شيئا لنفسي. كنت فكرة أن أرحل عن الوجود دون أن أترك أثرا تستبد بي كحزن عميق، لكن بعد أول نجاح اشتد بي الحزن وجنون الرغبة في المزيد حين فكرت في حالة رحيلي عن الدنيا تاركا أثرا أدبيا وحيدا. لذلك واجهت الأثر الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس وها أنا ذا متورط في الكتاب السادس... أعتقد أن الكتابة نوع من الأفيون، وحين نصاب بهذه البلية فهي داء لا يرجى شفاؤه. كنت من بين القلائل الذين كتبوا عن الثورة التونسية من خلال إصدارك الأخير لكتاب بالفرنسية عنوانه « البوعزيزي أو الشرارة التي أطاحت ببن علي». هل تعتبر أن الروائي مدعو بالضرورة للتفاعل مع الطارئ خاصة إذا كان هذا الطارئ يتجاوز التخييلي؟ إن الذي تعيشه تونس اليوم ليس بالشيء العادي وإنما هو صفحة جديدة، هي أجمل الصفحات في تاريخها المعاصر. إنها صفحة جميلة ومحزنة: فقد فقدنا أكثر من 200 شهيد سقطوا تحت الرصاص. ولقد دفعوا دمائهم وحياتهم من أجل حدوث هذه الثورة التي حولتنا إلى مواطنين فخورين يتخذ منا العالم كله نموذجا. فكيف يمكن للمثقف أو الكاتب أن لا يقدم التحية لهؤلاء الأخوة الشهداء الذين ماتوا من أجل تونس حتى تكون أفضل؟. إني وزملائي الصحفيين لم نتوان في تقديم هذه التحية من خلال آلاف المقالات. لكن ماذا قدمت أنا شخصيا؟ ما هي مساهمتي في جعل ذاكرة الاعتراف متوهجة؟ لا شيء. هل يكفي أن أقوم بتحقيق صحفي في سيدي بوزيد؟ لقد قمت بذلك. و لكن ما فائدة القيام بتحقيق صحفي يقرأ في الصباح و ينسى في المساء بحكم حياة الجريدة؟. وأمام هذا العجز جاءت الحاجة إلى كتابة كتاب عن البوعزيزي ليظل كأثر متواضع على هذا الوعي بضرورة المساهمة في هذه التحية للشهداء... لقد صدرت ثلاثة كتب بعد الثورة ذات أهمية بالغة «تونس: الدولة والإقتصاد والمجتمع» لمحمود بن رمضان و«ثورة الشجعان» ل«محمد الكيلاني» و«بن علي المرتشي» لبشير التريكي، ولكن لا شيء عن مأساة البوعزيزي. حتى أن اسمه لا يذكر إلا لماما في هذه الكتب الثلاثة، لا يمكن أن ننسى شخصا كان السبب الظاهر على الأقل الذي أودى بنهاية حكم بن علي، كما لا يمكن أن ننسى أن الثورة التي اندلعت انطلاقا من سيدي بوزيد كانت تهتف باسم البوعزيزي، فهل يمكن أن نخجل حين نعير قلمنا للكتابة على بائع خضار متجول في اللحظة التي يفكر فيها البعض أن البوعزيزي ليس بشهيد... إن كتابي المتواضع عن البوعزيزي ليس كتابا سوسيولوجيا ولا تاريخيا ولا أنثروبولوجيا, إنه مجرد شهادة وتحية أردت تركها كأثر لأبنائنا اللذين يسألون غدا عن شخصه. من يقرأ روايتك الأخيرة «ما لم يقله الله « الصادرة قبل الثورة يكتشف أنها رواية اعتنت بشكل أساسي بالمسألة الإسلاموية أي وبشكل أكثر دقة بالإسلام السياسي في تونس، هل يعني ذلك أن الكتابة الروائية معنية أو مدعوة للالتزام السياسي؟ الكتاب يتجه بالنقد مباشرة وبشكل دقيق للتعصب الديني. عندما أفكر في الخراب الحاصل في الجزائر طوال النصف الأول من تسعينات القرن الماضي أنخلع من فكرة أن يحدث ذلك في بلادنا في يوم ما. لا ننسى أن هذا الخراب الذي سببه إسلاموية جامدة وجهادية أصولية وعمياء قد تم التنبيه إيها من طرف الكتاب الجزائريين كرشيد بوجدرة في كتابه «فيس الحقد» وكذلك الروائي ياسمينة خضراء في كتابه «الاغتيال». هذا الأمر يدعوني إلى اعتبار أن الرواية المعاصرة تستمد قوتها من هذا النفس الالتزامي. أما الذي يحدث عندنا فإنه بدأ يتخذ صفة أكثر خطورة وهو موضوع روايتي. ففي بلادنا اليوم كل تاجر بسيط وبائع خضر وغلال أو حلاق يدعي أنه قادر على تفسير النص القرآني، كل شخص في تونس اليوم ينتصب فقيها ومفسرا، كل الناس أصبحت الشيخ فاضل بن عاشور. وهذا في رأيي أمر خطير، فهؤلاء الناس يحاولون اليوم توريث أبنائهم منذ نعومة أظافرهم مفاهيم خاطئة عن الإسلام. وفي روايتي حاولت أن أفسر كيف نتوصل لصناعة متعصب أعمى قادر على أن يتحول إلى مجرم يسفك الدماء باسم الإسلام. و هذا أمر غير معقول. فمن خلال الحكاية التي أرويها، طرحت الأسئلة التالية: ما هي طبيعة التربية الدينية التي من الواجب تقديمها لأبنائنا؟ هل من الواجب إرغامهم على اعتناق إسلام متشدد وعنيف يؤدي بهم إلى التعصب القاتل؟ وبالمقابل كيف يمكن إقناعهم أننا مسلمون مؤمنون؟ كيف يمكن أن نفهمهم أن الإسلام دين سمح ونبيل، أنه دين قائم على الإيمان و أن الإيمان مسألة شخصية وأن لا أحد قادر على فرض هذا الإيمان بالعنف وبالعصا؟ إن الإسلام في هذه الحالة يفقد كل وهجه وأنواره حين يتحول إلى ظلامية ومجموعة من العوائق والمحرمات. الإسلام في نظري نعمة، هدية رائعة للمسلمين لا يجب تحويله إلى نقمة و إلى ظلامية قاتلة. وأعتقد أنه لا يمكن للمرء أن يحب شيئا بالإكراه. ذلك أمر مستحيل. عادة ما نعتبر أن الكتابة باللغة الفرنسية مساهمة مباشرة في الثقافة الفرانكفونية، كيف ترون هذا الأمر؟ إذا كان شخصي المتواضع قد يساهم بشكل ما في الثقافة الفرانكفونية، فهذا أمر وإن حصل يجعلني فخورا وسأقول لك لماذا. لنتذكر أننا نملك إذاعة دولية باللغة الفرنسية، وأن جريدة مثل لابراس يبلغ عمرها اليوم أكثر من 75 عما وهي أكبر مني سنا، دون أن ننسى الجرائد الأخرى الناطقة بالفرنسية، دون أن ننسى العديد من المواد التربوية و العلمية والأدبية التي تدرس باللغة الفرنسية. فهذه اللغة لا تزعجني وليس ذنبا أن تكون هذه اللغة إرثا ورثناه تاريخيا. فأنا حين أكتب بالفرنسية فإني لا أثري هذه اللغة، فهي ليست في حاجة لي لكي تصبح غنية. ما أقوم به هو فقط دعوة الآخر لكي ينفتح على ثقافتي ومخيالي وشعريتي. فإذا كانت ثقافتنا في تونس تنحصر في التعبير عن نفسها باللغة الغربية فكيف للآخر الذي لا يعرف العربية يكون قادرا على التعرف على ثقافتي؟ إن التمكن من لغة ثانية في ثقافتنا هي ثراء لنا وجسر للآخر و ليس عائقا. تعدمن بين الكتاب التونسيين اللذين تحصلوا على جائزة الكومار للرواية، وروايتك الأخيرة تم ترشيحها للجائزة، هل تعتقد خارج المكافأة المالية أنه بإمكان مثل هذه الجوائز الأدبية أن تحقق الاعتراف بموقع الروائي في تونس؟ في العام الماضي حين تحصلت على جائزة كومار، أسر لي أحد المتوجين في تلك الدورة: «هل تعلم أن حصول شخص على جائزة لا يمكن أن يكون إلا مجرد حدث عارض، أنه في ظروف أخرى لا يمكنه التحصل على الجائزة»، لا أدري لماذا أعجبتني تلك الملاحظة. أجل إن الجائزة يمكن أن تكون مجرد حادث أو صدفة ربما قد لا نستأهلها. وللعودة لسؤالك لا أعتقد أن الجائزة الأدبية بإمكانها أن تثبت مكانة الكاتب. يبقى أن الجائزة هي اعتراف بالكاتب. خاصة إذا كان الروائي يواجه تمنع القارئ بشكل دائم فإنه قد يهجر الكتابة. يبقى أن نشير أنه للأسف الشديد لا توجد جوائز أدبية كافية في بلادنا. وأكثر الجوائز شهرة منذ 14 عام هي جائزة كومار. أعرف أن هنالك جائزة الهادي العبيدي لكنها فقدت مصداقيتها منذ أن منحت لشخص لم يكتب طوال حياته حرفا واحدا. لقد تم تتفيه جائزة الهادي العبيدي و لم يعد أحد من الكتاب يحترم هذه الجائزة. ومن الواجب بعث جوائز أخرى تحفيزا على مزيد من الكتابة و الإبداع. وفي هذا السياق لا أخفيك سرا: روايتي الثالثة «سنوات العار» التي صدرت عام 2010 تم ترشيحها من بين أعمال أدبية أخرى لجائزة الفرانكفونية في باريس. بمعنى أنها الآن بين أيادي أعضاء الأكاديمية الفرنسية، وبصراحة أنا أشعر بالفخر و لكن دون أية أوهام لأن روايتي لن تكون أفضل من الروايات المغاربية التي تم ترشيحها غير أن ذلك وحده هو بمثابة الاعتراف، ليس مهما الحصول على الجائزة أو عدمها. هناك من يعتبر المحلي بمثابة البوابة للكونية، و الناظر في عالمك الروائي مغرق في المحلية خاصة في ما يتعلق بحياة المدينة العتيقة. هل تعتقد أن هذه العالم المحلي الخاص بك بإمكانه أن يبلغ الكونية؟ اسمح لي أستاذ حليم أن أقول لك إنني لا أفهم أننا نستطيع إدعاء الكونية دون الإنطلاق من المحلي. ولكي أفسر لك ذلك سأعطيك مثالين متضادين. لدينا روائي تونسي يكتب باللغة العربية ولا يتحدث في رواياته إلا على فرنسا و على ألمانيا خاصة والنرويج وفلندا وإيطاليا الخ. فكيف تريد أن تترجم رواياته إلى لغات أخرى؟ فأين الإضافة؟ وبالمقابل فإن الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي الذي تحصل على جائزة غونكور لعام 2009 بفضل روايته «سنقي سابور» Syngué Sabour والتي تعني في اللغة الأفغانية «حجر الصبر» فإنه قبل هذه الرواية لا أحد يعرف إسم هذا الحجر ولا وظيفته ولا دلالته الرمزية، وقد ترجم هذا العنوان إلى أكثر من عشرين لغة. لذلك أعتقد أنه من الواجب الإنطلاق من المحلي ومن الأشياء الخاصة والخصوصية لكي نجعل الآخر يهتم بنا. الأوروبي لن يهتم برواية يكتبها عربي وتتحدث عن أوروبا وبالتالي فإن روايتك لا قيمة لها. عادة ما أراك في بعض الخلوات مع نفسك تحدث نفسك في المقهى، هل لذلك علاقة بالكتابة، أقصد الكتابة الذهنية أم ذلك مجرد ذهان؟ صحيح أنني أفضل الاختلاء بنفسي حتى و إن كنت مع الناس. في الحقيقة لا أكتب بطريقة ذهنية ولكن أحاول التفكير في مشروع الكتابة، فالصعب ليس الكتابة في حد ذاتها ولكن الصعب إعطاء منطق للكتابة أي هندستها. ومن البديهي أن تكون الرواية في جزئها الأهم قائمة على التخييل ولكن على هذا التخييل أن يكون لصيقا بالواقع حتى لا يسقط في اللا معنى. أنت تتهمني بالذهاني لأني أكلم نفسي، لكن هناك من يتهمني ب«المحاسب الأدبي»، أنا لا أحسب شيئا عدا بعض الخسارات لكنني أحاول أن أكون منطقيا فيما أكتب وهذه دربة ذهنية قد تجعلني أكلم نفسي.