لأن إذاعة «موزاييك» ليست محطة أمريكية ولأن الشعب التونسي لم يحقق ثورته و يكتب دستوره في القرن الثامن عشر, و لأن توفيق بن بريك ليس بأرسن والس Orsen Welles في بداية شبابه حين أربك الملايين من الأمريكيين على موجات أثير محطة السي بي آس CBS عام 1938 مقتبسا للإذاعة رواية «حرب العوالم» لهربرت جورج والس H.G.Wells موهما بكارثة كونية جعلت آلاف الأمريكيين في مدينة نيو جرزي يهربون من ديارهم و يرحلون في اتجاه الشمال , ولأن ذلك كله يجعل ما حدث مع بن بريك يذكّر بطعم ذلك الهلع الذي عاشه التونسيون وهم يستمعون إليه على أثير «موزاييك», تجمع البعض من الناس الذين انزعجوا من بن بريك أمام مقر الإذاعة احتجاجا على هذا الصوت الجديد الجارح و القاطع كسيف الساموراي, كما وقفوا احتجاجا على المحطة الإذاعية «موزييك» التي سمحت له بالمقابلة. كان احتجاج هذه الجموع الذي لم يسبق و أن حدث مرة في تاريخ تونس الحديث إحتجاجا على «قلة التربية» أو على «البذاءة» التي تفوه بها بن بريك. البعض من هذه الجموع أرادت معاقبة بن بريك ربما بالضرب أو التمثيل به أو ربما إجباره على الاعتذار عن جملة «نزع البنطلون أيام بن علي»... أذكر أن أورسن والس اعتذر من على منبر الإذاعة للشعب الأمريكي على إرباكهم عندما أيقن والس أن الشعب الأمريكي في ثلاثينات القرن الماضي قد لا يفرق بين الحقيقة و المزاج أو بين الواقعي و التخييلي. ٭ ٭ ٭ الذين عاقبوا توفيق بن بريك طوال سنوات وكسروا قلمه وكمّموا فمه وضيقوا عليه عيشه و اغتالوا عقله وصادروا حلمه, يعودون الآن ليسيئوا إليه باسم أكذوبة البذاءة والأخلاق الحميدة. وكأنهم في قرارة أنفسهم في حاجة دائما إلى كبش فداء وإلى أضحية تغطي بدمائها المهراق عوراتهم... حدث ذلك في بحر هذا الأسبوع حين تكلم بن بريك على الهواء في إذاعة «موزييك» بمناسبة صدور كتابه الأخير عن الثورة في تونس وهي المرة الأولى التي يتكلم فيها من على منبر إعلامي تونسي رغم أنه لازم الصّمت منذ الثورة وترك الآخرين يهرولون في حضيرة التلفزيونات والإذاعات والصّحف بعد أن تحوّلوا بين عشية و ضحاها إلى أبطال وثوريين وحكماء و منظرين وعلماء ومحللين وسياسيين والقادرين وحدهم على حماية الثورة. تلك الثورة التي حوّلت إلى رهينة في لجنة أو هيئة طويلة الاسم كطول عنوان مقدمة ابن خلدون. ٭ ٭ ٭ تكلم بن بريك وسمّى الأشياء بأسمائها, تحدّث من حيث هو كاتب جارح ومجروح, تكلم من حيث هو شاهد على ما حدث وحدث الآن, تحدّث من حيث هو شهيد دائم للكلمة الحرّة ومستشهد من أجلها, يخرج الكلام من فمه ومن تحت مداده كما الطلق الناري لا يخطئ أحدا... لقد أربك بن بريك مستمعيه على الأثير, صدموا من هذا الوضوح وهذه الصراحة المباشرة, اخترق كلامه آذانهم المتعوّدة على الكلام الخشبي والمعسول والمنمق والمتحذلق و الكاذب والمراوغ... هؤلاء أنفسهم ينعتونه بالبذاءة, و يتناسون أنهم الغارقون في برك البذاءة لمدة 23 عاما, حين صمتوا وتخاذلوا و استكانوا لتك الطمأنينة ولذاك النفاق حين يصفقون لبن علي وحين يناشدون وحين يباركون السّياسة الرشيدة والعناية الموصولة وصناديق التضامن والحماسة لتهمة «الاحتماء بالأجنبي», حين يسكتون على الذوق المافيوي في الإدارة والعمل والجامعة والمدرسة والشّارع والإعلام والثقافة والإقتصاد. وحين يحتفلون بالتغيير وصانعه, وحين يحتفلون بعيد اللباس التقليدي ويرون في موائد الإفطار والإذلال شيئا من سماحة الأيادي القذرة... هؤلاء أنفسهم المغرمون بالشيخ مشفر وبنك الزيتونة الإسلامي, وبالنموذج الطرابلسي للنجاح وثقافة «إحنا هكة» و«عندي ما أنقلك», و«فرّغ قلبك» و«المسامح كريم» و«الحق معاك» والبكاء على البطل المقدام «شوكو» في مسلسل «مكتوب»... هؤلاء أنفسهم يعودون رافعين فزاعة الأخلاق ومحاربة البذاءة ويحتجون على بن بريك الذي لم يتخاذل في محاربة البذاءة ذاتها, بذاءة نظام سياسي كامل حوّل التونسيين إلى خرفان عيد وحوّل البلاد كلها إلى حضيرة مافيوية يشترون فيها الذمم والبكارات والشهائد العلمية. ٭ ٭ ٭ هؤلاء أنفسهم قد حوّلهم نظام بن علي من القراءة إلى الشّفوي, ذلك أنه لم يحتج أحد منهم على كتابة بن بريك طوال عقدين من الزمن بل إحتجّوا على قوله مسموعا، وهو ما يعني أن هؤلاء لا تقاليد لديهم في القراءة, وهو ما أدركه الجنرال الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة وإنما يحسن كبوليس أقوال الوشاة والمخبرين فكاد يؤبّد حكم الاختلاس ونظام البذاءة. ولأن هؤلاء يمثلون جموع ما بعد الكتابة إي الارتداد إلى الشّفوي لا في بعده الملحمي بل الشفوي في بعده الغوغائي, ولأن زادهم في الاستماع إلى المواعظ الجاهزة في الفضائيات الدينية قد قتلت فيهم ملكة القراءة و التمييز فإنه من الواجب الانتباه لهؤلاء الذين تعلموا الإحتجاج على البذاءة عن طريق السّماع, وهم يتحفزون الآن ليلعبوا لعبة الأخلاق ومحاسنها وهم يدركون أن ورقة الأخلاق هي الورقة الرّابحة مستقبلا على المستوى السّياسي بارتباطها بالسّراطية والأرتودكسية وسوق الأخلاق والإسلاموية, بمعنى آخر فإن هؤلاء الذين أزعجهم صوت بن بريك العاري أو قوله الحافي, سيتحولون إلى طابور جديد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أو هم سيقومون مستقبلا في الزوايا الخلفية التي ستغدر فيها الثورة بمهمة ديوان الحسبة لإخماد أي صوت نقدي أو لاذع أو فكر نير أو أي خطاب شعري أو جمالي. ٭ ٭ ٭ بن بريك لا يملك إذاعة و لا قناة تلفزيونية, ولا جريدة ولا حزبا ولا بطانة ولا بازارا ولا عشيرة ولا مجموعة من البنوك... كل ما يملكه هو صوته أو قلمه. يكتب مثلما يتكلم ويتكلم مثلما يكتب. بن بريك لم يستطع بن علي بآلته الجهنمية إخماد صوته... ولن يستطيع أحد إخماد صوته أو شراء ذمته... أيها المنزعجون من «بذاءته» اخجلوا قليلا فأنتم مدينون له.