إن مقولة الأمن « La sécurité» من أكثر المفاهيم تداولا في المجال القانوني والقضائي لا سيما عندما يتعلق الأمر بتقييم نظام قانوني أوقضائي معين. ولقد تزايد في يومنا هذا الاهتمام بالسلطة القضائية دون التعريج على الأمن القضائي عموما حال كونه من مفاصل الدولة، فلا رخاء بدونه خاصة أمام التحولات العالمية التي لا تقف والتي توحي بعدم الاستقرار في الحياة البشرية لان من يقول بعالمية الاقتصاد يقول بكونية القانون والقضاء. ولا جدال في أن القانون في عمومه ظاهرة تنظم الحياة الاجتماعية بكل ما فيها من مظاهر حياتية ونشاط إنساني ومن أهداف القانون تحقيق الأمن الفردي والاستقرار المعيشي وتركيز نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يعكس بالضرورة الحراك المجتمعي في كل مرحلة من مراحل الدولة لذلك أصبح الأمن القانوني ومنه الأمن القضائي: SPAN style= mso-spacerun: yes» في صميم مشاغل الدول النامية والمتقدمة على حد السواء ومن اهتماماتها الكبرى بل من أمهات المسائل المطروحة ضرورة أن الأمن القضائي هورديف الأمن القانوني ولا أمن قضائي بدون أمن قانوني يفرز أمنا اجتماعيا قائما على احترام كرامة الإنسان والتنمية البشرية هي القاعدة الأصولية التي تنبني عليها هذه الكرامة ، كما أن المنتوج القضائي صنوالمنتوج القانوني لا بد أن يرضي المواطن ويؤمنه من الخوف على حياته وممتلكاته ويطمئن الأجنبي ويشجعه على السياحة والاستثمار. ولقد اتسعت رقعة تدخل القضاء وتعاظمت انتظارات المتقاضين منه وأصبح الأمن القضائي ضرورة قانونية تحتمها المرحلة بغرض تبديد كل قلق وإزالة كل حزن وإذا كان الأمن القضائي مطلبا شعبيا فهو بالنسبة إلى عموم القضاة دون تفرقة هاجسا ومعاناة وإن من يخرس صوته عن هذه الحقيقة تنقصه يقظة الضمير وجرأة البيان واللسان، وإن الأمن القضائي جزء لا يتجزأ من الأمن الإنساني ، فهو قضية امة بأسرها لا قضية أفراد وموضوع شراكة مسؤولة بين كل مكونات المجتمع المدني ولا بد حينئذ أن يكون مستقبل القضاء في صميم سياسة الدولة في هذه المرحلة التاريخية الهامة والخطرة لا على الهامش كما كان سابقا وميزانية وزارة العدل تغني عن كل بيان ، فلا بد من بناء نظام قضائي «un ordre judiciaire» مؤسس على قواعد وتصورات حديثة تنسجم وتتناغم مع خطورة المرحلة القادمة والخطورة هنا تعني الأهمية ، كما لا بد أن تتطابق النتائج مع الفكر والتصورات لان الفكر هومصدر كل حق. إن الأمن القضائي يقترن بالأمن القانوني الذي يقترن بدوره بدولة القانون، ولا غروإن قلنا بان المساواة بين الخاضعين للقانون يمثل لا محالة الشرط الجوهري لوجود دولة القانون وعندها يكتسب الأشخاص والمؤسسات صفة الشخص القانوني «la personne juridique» كما أن المساواة في تطبيق القانون تعتبر رافدا من روافد نهضة الدولة وفي سيادة القانون أمان المواطن وامن الدولة. أولا : الأمن القانوني: «La sécurité juridique» أ مفهومه: ليس هناك أي تشريع في العالم على حد علمنا عرف الأمن القانوني لكن يمكن القول بان فكرة الأمن القانوني تعني التزام السلطة العامة بتحقيق قدر من الثبات للعلاقات القانونية وحد أدنى من الاستقرار للمراكز القانونية بهدف توفير الأمن والطمأنينة لجميع أطراف العقد القانوني «le contrat juridique». إن نظرية الأمن القانوني ليست حديثة العهد ضرورة أن ألمانيا كانت السبّاقة في ترسيخ هذا المبدأ منذ سنة 1961 ، حيث أكدت المحكمة الدستورية هذا المبدإ وأصبح منذ ذلك الوقت مبدأ دستوريا يعلو ولا يعلى عليه وتم تكريسه كذلك من طرف محكمة العدل الأوروبية في سنة 1962 تحت عبارة الثقة المشروعة la confiance légitime التي هي متجانسة مع نظرية الأمن القانوني وهذا ما انتهجته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان منذ سنة 1981. ومهما يكن من أمر فان الفقه سواء كان قانونيا أم قضائيا لم يعرّف الأمن القانوني تعريفا صريحا والسبب في ذلك يرجع بالأساس لكون نظرية الأمن القانوني متعددة الأشكال protéiforme ومتنوعة المعاني polysémique وكثيرة الأبعاد multidinensionnel ،SPAN style= mso spacerun: yes وتأصيلا لكيانها كان شراح القانون كثيرا ما يلتجئون إلى جذع مشترك لمجموعة من الحقوق والمبادئ الواجب احترامها تأمينا لقاعدة قانونية سليمة من العيوب ونذكر من ذلك ولانحصر: 1) العلم بالقاعدة القانونية وإتاحة إمكانية الوصول إليها بسهولة: «accessible» إن استخدام لغة واضحة في القانون تسمح للمواطن بادراك حقوقه وواجباته ، مما يعني أن تكون صياغة القانون بطريقة واضحة وأسلوب لا يحتمل التأويل لان في الإكثار من التأويل يصبح القاضي مشرعا وناطقا بالقانون حال كونه غير مختص بذلك وهذا ما أكدته محكمة العدل الأوروبية بسترازبورغ في أكثر من مناسبة. 2 اليقين القانوني : يعتبر أساسيا خصوصا في مجال الحريات والعقوبات الجزائية فلا جريمة ولا عقوبة الا بنصّ قانوني سابق الوضع إلاّ ما كان اخف بالمتهم «la loi plus douce» والتأويل الضيق للنص الجزائي واحترام التقادم المكسب والمسقط للحق واحترام العقود المحررة طبق القانون باعتبار ان العقد هوشريعة المتعاقدين . 3 تحقيق دولة القانون : إذا كانت الدولة وأجهزتها تخل باحترام القانون وتميز في المعاملات بين الأفراد فانه يصعب أن يسود جومن احترام القانون، فالقاعدة القانونية تجد سندها الأساسي في قيام السلطة العامة بفرض احترامه جبرا على الأفراد ، ولا تنجح الدولة في ذلك ما لم تكن هي النموذج الأول لاحترام القانون ، فلا سلطة تنفيذية ناجحة تستطيع فرض احترام القانون إذا لم تتقيد هي باحترامه وكل ذلك لا يتحقق إلا في دولة القانون تتحدد فيها المراكز القانونية وتحترم الحقوق قولا وفعلا. 4 تحقيق الاستقرار النسبي : يشترط في التشريعات بجميع أنواعها وأشكالها نوعا من الثبات والاستقرار والابتعاد عن التعديل الدائم للنصوص القانونية مما يؤثر على استقرار الأوضاع والحقوق المكتسبة «les droits acquis» وعلى سبيل المثال اذكر النشاط الاقتصادي الذي بطبيعته ممتد في الزمن وجوهر الاقتصاد التعامل مع المستقبل والرهان عليه ، لذلك وجب أن تكون القاعدة القانونية استشرافية وطويلة النظر وليس معنى هذا أن يكون القانون قوالب جامدة غير متحركة وإنما المقصود ألا يكون تطور القانون وتعديله ميدانا للمفاجآت والهزات، فالقانون يعبر عن حاجات المجتمع وهي بطبيعتها في حالة تطور لا تقف ولا تني تبتدئ ولا تنتهي ولكنه تطور واضح المعالم ، لذلك فان الأمن القانوني أو الاستقرار القانوني لا يعني فقط حماية المراكز القانونية القائمة واحترام حقوق الأفراد وضمانها في الحاضر والمستقبل، لكن الأمر يعني أيضا وبنفس القوة احترام التوقعات والآمال المشروعة. 5 القطع مع القوانين البالية : إن استمرار قوانين تآكلت بمفعول الزمن ولم تعد تتفق مع العصر واحتياجاته وبالتالي يصعب احترامها إن لم نقل سقطت في التطبيق بمفعول الزمن lois tombées en dése étude وهذا يولد مظهرا من مظاهر عدم الأمن القانوني بما يخلقه من أوضاع شاذة بين قانون غير مطبق وواقع جديد في أمس الحاجة لقاعدة قانونية معاصرة، فالأمن القانوني يقتضي الملاءمة المستمرة بين القاعدة القانونية واحتياجات المجتمع ، كما يجب معاصرة التطورات والمفاهيم الجديدة في أكثر من مجال لمواجهة احتياجات المواطن للقانون باعتباره مادة استهلاكية. وتجدر الإشارة هنا إلى كون عديد القوانين من عهد البايات لازالت مطبقة من ذلك اذكر الأمر العلي الصادر في 4 جويلية 1929 والقرار الصادر عن المدير العام للفلاحة والتجارة والاستعمار المؤرخ في 18 أوت 1928 حقيقة انها مهزلة ضرورة انه نشرت لدى محكمة الاستئناف بنابل عديد القضايا الجناحية موضوعها تكسير ارض خاضعة لنظام الغابات وقطع ورفع أشجار غابية وقد تمسكت إدارة الغابات بتطبيق الأمر المؤرخ في 04/07/1929 على قطعة الأرض عدد72 الكائنة بمنطقة سيدي داود من ولاية نابل ونذكر من ذلك القضية ع192دد الصادر فيها الحكم بتاريخ 11/05/2011. (يتبع) ٭ بقلم القاضي الطاهر بن تركية (رئيس دائرة بمحكمة الاستئناف بنابل)