كلما جلست إلى الأصدقاء وتجاذبنا أطراف الحديث حول الديمقراطية في قطرنا أو في الأقطار العربية بصفة عامة إلا وجزم أغلبهم على أن الوطن العربي يعيش أزمة ديمقراطية ويستدلون على ذلك بما وقع ويقع في الكثير بل في أغلب الدول العربية شرقية /خليجية كانت أو مغاربية.. فأقحمُ أمام هذا الاجماع وألملم أفكاري وأحشرها داخل صدفي وأعود إلى وحدتي بالمنزل لأغرق في التفكير وفي موجات الأسئلة العاتية التي تحيط بي من كل جانب ولم تترك لي منفذا أهرب منه إلى الجواب... وبعد أرق الليالي وعذابات البحث عما هو بالكاد غير موجود وبعد التفكيك الذي أجريته على أحداث الماضي منذ نشوء الثورة العربية في بداية هذا القرن إلى نشوء الحزب الدستوري في الأول منه وصولا إلى التغيير الذي حصل في هرم السلطة فجر يوم السابع من نوفمبر سنة 1987 وفي الكيفية التي حصل بها وخاصة ما أصبح عليه الوضع بعد الثورة الشعبية المباركة وهروب رئيس عصابة السراق والإعتصامات المتعددة أمام قصر الحكومة بالقصبة والاعتصمات المضادة في القبة بتونس وتعدد المنابر الإعلامية في الساحات العمومية والخاصة ونقاشات ساخنة وخطابات انطباعية متشنجة بدعوى الحرية والديمقراطية مما جعل المواطن يسبح في بحر من الألوان السياسية ويتخبط بين الأطياف المتداخلة والمتضادة فكريا وإيديولوجيا دون أي بعد تاريخي إلا ما قل وندر منها حزبان أو ثلاثة على أكثر تقدير. وهذه أحزاب تشهر تمكسها بمشروعية النضال ولها جماهيرها التي تساندها احتراما لرصيدها التاريخي ومانالها في عهد بورقيبة وفي عهد «الشين» بن علي، أما الأحزاب الناشئة لحد الآن بعد الثورة (أكثر من 50 حزبا) انبثقت من روح الثورة وكلها تتمسك بالشرعية الثورية الافتراضية la légitimité virtuelle de la révolution دون أي احترام للمبادئ الديمقراطية الحقيقة وذلك ما لاحظناه أثناء الجدل القائم بين هذه الأحزاب وما صدرت وتصدر من تراشق بالتهم بين ممثلي هذه الأحزاب وزعمائها وفي نظرنا أن الثورة في الحقيقة كانت في البداية عفوية دون زعامات سياسية أو اجتماعية أو ثقافية من أجل مطالب اجتماعية بحتة لكن السياسيين التفوا عليها فجنوا ثمارها وهم مازالوا يطرحون أطروحاتهم السياسية والأيديولوجية والفكرية مما جعل الكثير من التونسيين يرفضونهم ويطالبون بفتح الأبواب للعمل وتجاوز المعوقات الراهنة للاقتصاد لإيجاد حلول للمعطلين عن العمل الذين ما انفكوا يزدادون عددا من كل الأصناف وهذا من أكبر المعوقات للمسارات الديمقراطية الحقة. بعد التفكير والتمحيص أوجدت سؤالا وهو التالي: هل يمكننا حقّا أن نتحدث عن أزمة ديمقراطية في الوطن العربي بصفة عامة وفي القطر التونسي بصفة خاصة ؟ !... الحديث عن أزمة ديمقراطية يفرض أن تكون هذه الديمقراطية موجودة في الواقع المعيش.. في حين أن الديمقراطية المتحدّث عنها منعدمة تماما أو تكاد بصورة عملية وفعلية ! إذن السؤال عن الأزمة يجب أن لا يطرح بتاتا لان المسألة تصبح محصورة في إيجاد الكيفية الممكنة والمعقولة ولا أقول المثلى حتى تتخلى النظم عن الحكم الشمولي والنسق التعسّفي والدخول فورا دون إضاعة الوقت في المهاترات الهامشية في منظومة تتماشى والعصر والنظام العالمي الجديد الذي لا يمكن أن نواجه تحدياته إلا بالديمقراطية الفعلية التي لم تعد موضوعا للتاريخ بل هي ضرورة من ضرورات النسق العام للاتجاه العالمي والتي هي في الحقيقة المقوم الضروري للإنسان الذي لم يعد مجرّد فرد أو رقم من أرقام في إحصائيات الدولة هو مواطن يتحدد كيانه بجملة من الحقوق الخاصة والعامة وهي الحقوق الديمقراطية فضلا عن الحق في التعبير حرية الاجتماع حرية إنشاء الأحزاب والجمعيات، حرية العمل والحق في المساواة مع تكافؤ الفرص السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فالمسألة الديمقراطية يجب أن ينطلق النظر إليها لا من إمكانية ممارستها في هذا المجتمع أو ذاك بل من ضرورة إرساء أسسها وإقرار آلياتها والعمل بها بوصفها الإطار الضروري لتمكين المواطن من ممارسة حقوق المواطنة التي هي في نظرنا المساواة في الحقوق والواجبات والتي هي في تقديرنا ليست خضوعا واصطفافا وراء أشخاص وولاء أعمى... فلا ولاء إلا للوطن ولا سلطان إلا لسلطان العقل الذي كرم اللّه الإنسان به. الديمقراطية وحدها تمكّن الحاكمين من الشرعية الحقيقية التي تبرر حكمهم من جهة أخرى... إن الشرعية الديمقراطية هي اليوم الشرعية الوحيدة التي لا بديل عنها. لذلك ليس هناك أي مبرر لتعليقها أو وضعها تحت الرقابة أو الوصاية من أيّ جهة كانت... فعهد الديمقراطية « قطرة قطرة « أو في شكل « جرعات» قد ولى... إن أيّة أهداف تطرحها الدولة في عالم اليوم لا يجوز وضعها فوق « حقوق الإنسان والمواطن، بل بالعكس يجب أن تكون جميع الأهداف نابعة من هذه الحقوق، خادمة لها... كما أن النظر إلى الديمقراطية كمبدأ، أي كإطار لممارسة الإنسان لحقوق المواطنة، يجعلها سابقة على القنوات والمؤسسات التي تمارس فيها وبواسطتها... وانطلاقا من التجربة التي عشتها طيلة ربع قرن في المعارضة الديمقراطية السريّة والعلنية وفي صلب الحياة الجمعياتية قد ثبت لي عمليا أن المستفيدين من النظم الغير الديمقراطية لا يعرفون السير إلى السبل الديمقراطية حتى وإن أعلنوا أو كتبوا عن الديمقراطية أو تظاهروا بالدفاع عنها وذلك بالقيام أو بمساندة بعض الإصلاحات التي تظهر وكأنها في صالح التعددية والحياة المدنية المركزة على النسيج الجمعياتي وذلك بلفها بغلاف من القواعد القانونية التي لا تمت إلى الواقع بصلة وهي بعيدة كل البعد عن روح الدساتير المعلنة هنا أو هناك. وغالب التحاليل الصحفية – حتى الأجنبية منها – التي تظهر في بعض الأحيان في الأقطار العربية والتي تتعلق بالحياة السياسية في هذه الدول فإنها غالبا ما تتصف بالأحكام المسبقة أو بالمحاباة للخطاب الرسمي مما يجعل تلك التحاليل لا تتماشى والنزاهة الموضوعية التي يجب أن تحاط بها المسألة الديمقراطية حتى نستطيع ان نخرج من النفق الذي تردينا فيه إلى نور الشمس الذي لا يمكن تغطيته بغربال مهما كان نوع هذا الغربال... وانطلاقا من قطرنا ودائما من التجربة الخاصة التي خضتها في صفوف التقدميين الديمقراطيين منذ انتخابات 1981 إلى آخر انتخابات التشريعية الجزئية ( 07 /10/ 2001 ) بتطاوين ورغم الاصلاحات العديدة التي ظهرت في القانون الانتخابي والخطابات الرسمية المناسباتية فإن هاجس التناوب على السلطة بقي المسألة المركزية للحزب الحاكم والذين لهم مصلحة في استمرار هيمنته على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وخاصة هيمنته على النسيج الجمعياتي بصورة لا تجعل أي منفذ للاختراق. وذلك بتنسيق تام مع الادارة التي سدّت كل منافذ التحرر بالتحكم في المنح والرخص بكل أصنافها وفي الترقية إلى بعض الأصناف من الدراسات وذلك كله باللجوء إلى «قانون» الانتماء الناتج عن الحجة الهادفة إلى تقديم صورة مطمئنة لنظام يتجه إلى طريق الليبرالية التي لا تكلف كثيرا عندما تؤدي إلى تعزيز السلطة عن طريق إغلاق كل السبل التي قد تمكن السلطات المضادة الكامنة في الرأي العام والأحزاب المدنبة المنافسة لتصعد وتحتل الموقع الذي قد يهددها بافتكاك المبادرة من السلطة الحاكمة.. وهذا ما يعطي تفسيرا لتشبث الحزب الحاكم بهيمنته على المجتمع بصورة تكاد تكون كلية مما حدا بالمواطن أنه أصبح يعتقد أنه مجرد امتلاكه بطاقة الانخراط في « التجمع الدستوري الديمقراطي» يصبح مالكا الحلّ لمعالجة مشاكله الحياتية المتمثلة في الشغل والعلاج المجاني والتمتع بالإعانات الاجتماعية في كل المناسبات انطلاقا من مناسبة افتتاح السنة الدراسية والرقي في المهنة الخ... باختصار شديد أصبح التجمع في كثير من الحالات قناة من قنوات الحراك الاجتماعي مثل المدرسة والمؤسسة العسكرية والرياضة والفنون. معنى ذلك أن الحزب الحاكم أصبح يتصرف وكأنه فوق المواطن وحقه في المواطنة وبالتالي مصلحته فوق مصلحة الوطن، وأن الدولة كأنها دولة الدساترة وليست دولة كل التونسيين مبتزين بيان السابع من نوفمبر الديمقراطي التعددي الذي جاء نتيجة لطلبات التقدميين الديمقراطيين والذين ضحوا في سبيله بالكثير من دمائهم وعمرهم وصحتهم راكبين قاطرة رئيس الدولة الذي هو في الحقيقة يجب أن يبقى فوق كل الأحزاب باعتباره مرشحا أو مساندا من طرف أغلبيتها إلى جانب كل المنظمات والجمعيات المتواجدة في القطر...عدا القلة القليلة، فالمسألة في نظرنا لا تكمن في التساؤل حول انتماء رئيس الدولة ولكن حول كيف يقع التنسيق بين ماهو حزبي بالمفهوم المحدد للحزبية الضيقة وبين ماهو وطني أي ما يهم كل المواطنين والأحزاب الوطنية المعارضة والتي هي جزء من السلطة والوطن... إذا وحسب رأينا، حل المسألة الديمقراطية في الدول العربية في العموم وفي تونس بالأخصّ لا بدّ للمفكرين والباحثين الاجتماعيين والسياسيين أن يجيبوا عن الأسئلة الثلاثة الهامة التالية: علاقة رئيس الدولة بالأحزاب المعترف بها ؟ علاقة الحزب الحاكم بالإدارة؟ وهذا الإشكال قد زال بعد 14 جانفي 2011 بفضل الثورة المباركة وبعد إصدار قانون فصل الدولة عن الأحزاب ؟ كيف نمكن القانون من وظيفته التحكيمية الحقيقية حتى يؤدي دوره كاملا في مجتمع ديمقراطي تعددي مدني ؟ إذا أوجدنا أجوبة مقنعة و دون أي محاباة لهذا أو لذلك أوجدنا الباب الصالح للولوج فعلا إلى سبيل الديمقراطية القويم والذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى النماء والتقدم وافتكاك الموقع الأجدر في النظام العالمي الجديد نظام القرن الواحد والعشرين ومن بعد يمكن لنا استشراف المستقبل البعيد وكلنا ثقة في قدرات الإنسان العربي والإنسان التونسي بالخصوص.