المشهد كان تاريخيا: عشرات من مرشدي السياحة من عدة جهات من البلاد يزرعون زيتونة في مدخل مدينة الكاف، مستعيدين بذلك العمل التاريخي الرمزي قبل 16 قرنا أسوة بالقديس «أوغستين»، الذي اختار عند زيارته إلى مدينة الكاف أن يزرع فيها زيتونة للسلام والحب. بعد عودة هؤلاء المرشدين قال لي السيد فتحي المزوغي، وهو مرشد سياحي من سوسة: «نحن مرشدو السياحة من أكثر الناس معرفة بقيمة الكاف التاريخية والحضارية، وقد تطوعنا للذهاب إليها دفاعا عن حقها في التنمية السياحية ولإعلان رفضنا لتجاهلها المتعمد في المنظومة السياحية». بعد ذلك، فسر لي السيد المزوغي كيف أن نسبة كبيرة من مرشدي السياحة اليوم يحملون شهائد عليا في التاريخ واللغات وكثيرون منهم له شهادات المرحلة الثالثة. قال لي أيضا إنهم في مهنتهم يتقدون حبا وغيرة على الوطن وأن الثورة التونسية المباركة قد حررتهم، ولذلك قرروا كسر «الحصار السياحي» على الشمال الغربي بتلك الزيارة التاريخية في انتظار المزيد من الزيارات. قال لي مرشد سياحة آخر من نابل: «قررنا أن نقلب المعادلة: أي أن نصبح نحن المرشدون سياحا ونذهب إلى الكاف تثمينا لقيمتها الحضارية والسياحية». وهكذا كانت عبارات مثل «كسر الحصار» أو «قلب المعادلة» مدخلا لهذا المقال حيث تلاحقت المعلومات والحقائق المثيرة عن المنظومة السياحية في تونس وعن الإمكانيات العملاقة للاستثمار السياحي في الشمال الغربي والتي يتم تجاهلها عمدا من أجل الربح السريع والسهل على حساب الوطن. بحاجة إلى الكاف يختار السيد شكري القطي، الكاتب العام المساعد لنقابة مرشدي السياحة في سوسة أن يحدثنا عن خلفيات هذه الزيارة إلى مدينة الكاف: «ثمة رجل ممتاز أصيل الكاف يعيش في سوسة اسمه رياض المقري، جعلنا نغرم منذ أعوام بمدينة الكاف التي كنا نعرف أنها محرومة من التوجيه والاستثمار السياحي رغم الإمكانيات الاستثنائية بها. تم التنسيق بيننا في زيارة أردناها رمزية، لأن الكاف ليست بحاجة إلى المساعدة بل لنيل حقها فقط، وهناك وجدنا رجالا أذهلونا برغبتهم الصادقة في خدمة الجهة، واكتشفنا أنهم قد أعدوا لنا كل ما يلزم لتنمية السياحة الثقافية والبيئية وقطعوا أشواطا متقدمة في الإعداد للاستثمار السياحي في الجهة ولم يعد ينقصهم سوى تفهم أصحاب وكالات الأسفار والدولة». عدد هام من مرشدي السياحة التقيناهم حول السيد القطي وهم يستعدون لجمع نقاباتهم الفرعية الأربعة في نقابة وطنية، قالوا لنا بصوت واحد: «لدينا الرغبة في خدمة بلادنا، وأول مراحل هذه الخدمة هي أن نقول الحقيقة حول واقع المنظومة السياحية التي تستثني عمدا الشمال الغربي». قال لنا المرشد حمادي المهيري: «السياحة التونسية بحاجة إلى تراث الكاف وتاريخها الطويل وبيئتها، لقد سعينا طويلا لإدماجها أو اقتراحها في المسالك السياحية، لكن ذلك لم يلق قبولا لدى وكالات الأسفار التونسية». يتكرر هذا الكلام لدى الكثير من زملائه الذين التقيناهم في تونس ثم في سوسة، والبعض منهم لا يتردد في اتهام المستثمرين في قطاع السياحة وخصوصا وكالات الأسفار، فيما قال لنا مرشد من سوسة بوضوح: «هي ثلاثة أطراف مسؤولة عن وضع السياحة في تونس: الديوان الوطني للسياحة، جامعة النزل ووكالات الأسفار». بورقيبة ولي صالح يجب أن ننقل لكم الصورة القاتمة التي يراها الكثير من مرشدي السياحة في تونس، قال لي أحدهم بأسى: «فرض علينا أصحاب وكالات الأسفار برامج مخالفة حتى للواقع التاريخي، ومنها أن نقول إن المدينة المقدسة، أو ذات العمق الديني، هي المنستير لقربها من أماكن النزل وليست القيروان». فسر لي بعد ذلك كيف تم نقل الكثير من آثار القيروان الإسلامية إلى متحف المنستير قريبا من النزل حتى تتم الصورة المزيفة، ويتم تفادي السفر إلى القيروان لأن ذلك مكلف للمستثمرين في السياحة، أحد هؤلاء المرشدين قال لي بأسى: «تصور أن وكالة الأسفار التي أشتغل لديها تجبرني على القول إن ضريح الزعيم بورقيبة في المنستير هو أنموذج لأضرحة الأولياء الصالحين في تونس». ثلاثة مرشدين ينشطون من الوطن القبلي حدثونا بأسى كيف أن نابل أصبحت لدى بعض أصحاب وكالات الأسفار: «مدينة صحراوية، جلبوا للسياح قوافل الجمال على شواطئ نابل والحمامات لتفادي تكاليف السفر إلى الصحراء والترفيع في هامش الربح». يضيف محدثونا أن النشاط السياحي تركز ظلما على ثلاث أو أربع مناطق من البلاد للاستئثار بالسائح وبإنفاقه، لذلك، «تم إنشاء حدائق حيوانات قريبة من النزل والطريق السيارة بدل نقل السياح إلى المحميات الطبيعية حيث حيوانات تونس الحقيقية، وإعادة تشكيل بعض ميزات البلاد بطريقة اصطناعية، كل ذلك من أجل الضغط على التكاليف ومضاعفة الأرباح، وليذهب تاريخ البلاد وتراثها إلى الجحيم». هذه الصورة القاتمة تعيدنا إلى العبارة الحزينة التي قالها لنا المرشد حمادي المهيري: «في أكثر من عشرين عاما من العمل لم أذهب إلى الشمال إلا مرتين، ولك أن تفهم السبب»، والسبب حسب عدد كبير من المرشدين الذين تحدثنا إليهم هي وكالات الأسفار، «نحن موظفون لديها، وليس لها أي مبرر لنقل السياح إلى الشمال الغربي»، كما قالوا لنا. سياحة في الظلام يقول لنا موظف بديوان السياحة بوضوح لما نقلنا إليه هذه المعلومات المثيرة: «كل عام، يزداد أصحاب وكالات الأسفار تصميما على الربح السريع، وهو يعني أقل ما أمكن من الحركة والنقل، وخصوصا أن يظل السائح لدى نفس المستثمر، أي في النزل والمتاجر والمرافق التي تديرها وكالة الأسفار يعني في المناطق السياحية التقليدية المعروفة». أما عن الشمال الغربي، فيقول محدثنا: «في الوضع الحالي، لا أحد يملك مبررا للاستثمار في السياحة في الشمال الغربي، حتى الدولة تضع كل ثقلها مع وكالات الأسفار ومستغلي النزل الذين هم في المناطق التقليدية للسياحة أي الوطن القبلي والساحل وبدرجة أقل الجنوب الشرقي». بعد ذلك، يفسر لنا هذا الموظف الذي اشترط عدم ذكر أي شيء يكشف هويته أن الدولة نفسها تورطت في هذا «الوضع الشاذ» كما يسميه، فأصبحت توفر التمويلات المسحوبة من المال الوطني لمشاريع سياحية تشوه التاريخ وتحرم الجهات الداخلية من الاستثمار في السياحة. يقول مستنكرا: «هل أن مشروعا يقوم على توظيف تراث الصحراء وقوافل الجمال في نابل بدل الجنوب يستحق التمويل العمومي؟ طبعا لا، لكن ذلك يحدث تحت ضغط المستثمرين، ولذلك أصبحت نابل تختزل كل ثقافة وتراث الصحراء». وفي تفسير أكثر واقعية، يكشف لنا أحد مرشدي السياحة في سوسة أن أصحاب وكالات الأسفار يتعمدون اختصار الرحلات السياحية من أجل الربح، «نحن لا نفهم كيف يتم تقديم البلاد التونسية في ثلاثة أيام من شمالها إلى جنوبها، ورغم ذلك، كان علينا أن نتأقلم مع البرنامج المختصر ونحن نعرف أنه يقوم على احتكار السائح في سلسلة مشاريعهم من النزل والمطاعم والمتاجر ومنعه من الإنفاق خارجها حتى وإن تطلب ذلك حرمان البلاد كلها». بالتثبت في عدد كبير من برامج وكالات الأسفار في تونس، يتبين لنا أن العديد من رحلات اكتشاف البلاد تقوم على رحلة بثلاثة أيام، غير أن محدثنا يفاجئنا:»في الأصل، كانت الرحلة إلى الجنوب لا تقل عن ثلاثة أيام، فأصبحت يومين: يوم في المسير إلى القيروان ينتهي مع حلول الظلام، لكن السياح لا يبيتون هناك لأن وكالات الأسفار لا تمتلك نزلا في القيروان، بل تنطلق بهم الحافلة في الظلام منهكين نحو الجنوب فلا يرون شيئا من الطريق ولا من المعالم أو البلاد». سياحة ذكية مع السيد شكري القطي، نعود إلى رحلة مرشدي السياحة إلى الكاف، يقول لنا إن المرشدين قد درسوا الوضع في الكاف بطريقة واقعية: ثمة استثناء للشمال الغربي من مسالك ومنظومة السياحة في تونس، «لذلك فكرنا في البنية التحتية، وفي غياب العدد الكافي أو المناسب من النزل، يمكننا القول اعتمادا على خبراتنا في الميدان أنه يمكن تطوير بدائل مهمة مثل غرف الاستضافة التي تستفيد منها العائلات بشكل مباشر ثم الجهة كلها في انتظار تطوير المرافق السياحية»، كما يقول لنا السيد فتحي المزوغي، غير أن كثيرين غيره من مرشدي السياحة لا يشاركونه تفاؤله، لاعتقادهم أن «الوجهة التونسية في السياحة» تحت السلطة الكاملة لثلاثة أطراف وهي: الديوان الوطني للسياحة، جامعة النزل ووكالات الأسفار. يفسر لنا أحدهم أن التسويق السياحي حاليا يتم لخدمة المناطق الشاطئية وبدرجة أقل الصحراء، حتى أن أي مستثمر يتجرأ على الاستثمار في مشاريع سياحية في الشمال لن يحظى بأي سائح، لأن الأمر كله بيد وكالات الأسفار التي تستثمر في النزل الشاطئية حيث الأرباح سهلة وواضحة. يتفق محدثونا من المرشدين على ضرورة إطلاق نداء إلى أصحاب وكالات الأسفار: «يجب الانتباه أخيرا إلى الجهات الداخلية، خصوصا وأنها مربحة من الناحية التجارية، يجب أن نخرج البلاد من الأكاذيب السياحية الشائعة وهي أن السياحة هي البحر والشاطئ وجمل في الرمل، لأن السائح أصبح ذكيا وأصبح يبحث عن معنى سياحته خارج المنطق العام لسياحة الأغبياء». يقول لنا شكري القطي: «نحن لدينا الكفاءة المهنية لنكون طرفا فاعلا في تطوير السياحة التونسية، وإبداء الرأي في المسالك السياحية المقترحة التي تنفق المجموعة الوطنية لتطويرها، لكنهم أقصونا عمدا وعاملونا بصفتنا موظفين بلا أفكار. لذلك قررنا أن نتولى بأنفسنا زيارة الكاف تأكيدا لقيمتها، سوف ننظم رحلات كثيرة لزيارة مائدة يوغرطة الشهيرة، وحمام ملاق الروماني وغيرها من المعالم الشهيرة، بالمناسبة: بلغ تحياتنا إلى كافة أهالي الكاف على حسن الاستقبال».