لم تكن ذكرى «وعد بلفور» المشؤوم حدثا عابرا في التاريخ العربي، اقترض وفقه أو من أجله وزير خارجية بريطانيا ردهة من الزمن العربي وجزءا من الأرض العربية... أبدا... «وعد بلفور» المشؤو ليس تفصيلا في التاريخ العربي، وهو بالتالي ليس غلطة ولا هو نتاج مزاج وزير خارجية لدولة عظمى استعمرت وحكمت وساهمت في نبذ اليهود في أوروبا، بل كان الحلقة الأساسية في تسيس عهد استعماري استيطاني هو الأول من نوعه في تاريخ البشرية. «وعد بلفور» المشؤوم لم يكن مناسبة جاءت على حين غفلة ومرت دون ضجيج، بل هي نقطة أثرت أيما تأثير في المصير العربي، ربطت حياتنا الفكرية ومسارنا العلمي المعطّل من زمن، لتؤسس لنظرية شؤم، اسمها المؤامرة. «وعد بلفور» المشؤوم، لم يكن حدثا «عاقرا» أو «زلّة» تلزم صاحبها فقط، بل هو «وعد» فرّخ وتفرّع فشهدنا يوم ذكراه (الأحد 2 نوفمبر الذكرى ال86 لإعلانه) كيف سارع شارون إلى معقل كبار مخطتي الصهيونية عهد القياصرة يثني الرئيس الروسي عن برنامجه الذي يعمل على اقحام خارطة الطريق في العمل الأممي فيرجع بوتين بذلك القضية الفلسطينية إلى مهدها الذي خرجت منه في حين لم نر عربيا واحدا صفّق وذهب فسبق الأعداء، يشدّ على يدي الروس على هذه البادرة التي كانت ستحاصر «اسرائيل» وحليفتها المورّطة في العراق. «وعد بلفور» المشؤوم لم تفارقنا نحن العرب تداعياته، بحيث تأكد عبر الزمن والأحداث ان اسرائيل «رأس حربة» الاستعمار الجديد، وأن الأمة العربية هي الحقل المناسب لتجارب الصهيونية والمخططات الاستعمارية التي لا تخطر على بال عاقل. «وعد بلفور» المشؤوم، ومن شدّة شؤمه، يأتي هذه المرة ذكرى مريرة فيها العلقم يزداد كلما «لكنا» علكة المرارة والخيبة. «وعد بلفور» المشؤوم يأتي هذه السنة، والتهديد للعراق أصبح حقيقة والتهديد ضدّ سوريا يعمل «أحفاد بفلور» المتعددين، على أن يصبح واقعا. «وعد بلفور» المشؤوم، تعاودنا ذكراه هذه السنة وبغداد المنارة.. بغداد الحضارة... وبغداد العلم تمحق على أيدي من علموا «المغول» الهمجية ومن لقّنوا التتار «فنون» الانتقام والحقد. «وعد بلفور» المشؤوم يحلّ في ذكراه السادسة والثمانين، ونحن نشهد قمة الحقد الصهيوني والحقد الحضاري الذي جسّدته «فلول» الصهيونية في أمريكا فرأينا ولانزال الجنود الأمريكيين يحاربون من أجل فكرة غير فكرة وطنهم ويموتون من أجل أن يحقق بعض من المتنفذين عندهم، انتقاما تاريخيا حين عبثوا في الأرض فسبتهم بابل. «وعد بلفور» المشؤوم يأتي هذه المرة في صمت تاريخي، يحاول من خلاله العالم الذي يغلّف الحرب ضدّنا بترّهات ومسوّغات واهية في حين تعمل الصهيونية على تبديل أسس وغلاف الصراع، بيننا وبينهم، يقولون إننا كعرب نعاني من عقدة المؤامرة، وأن الأمر كلما استفحل فينا كلما تأخرنا عن انجاز استحقاقاتنا، ونحن نسأل هؤلاء الذين يتآمرون علينا من جديد، يتآمرون على ذاكرتنا حتى ننسى ونعتنق النهج الفكري العليل الذي سيجعل منّا بشرا دون البشر مرتبة وطموحا إذ نحن اعتنقناه باسم الحداثة والموضوعية والديمقراطية، نسأل إذن: إذا كان «وعد بلفور» المشؤوم ليس مؤامرة... ومؤتمر «بال» في 1897 ليس مؤامرة... ونكبة فلسطين ليست مؤامرة... وقبلها تقسيم سايكس بيكو للأمة ليس مؤامرة.. وأسلحة الدمار الشامل في العراق ليست مؤامرة.. وتداعيات 11 سبتمبر ليست مؤامرة، فما هي المؤامرة من فضلكم.. وكيف تكون مكوناتها؟ لا عزاء للأمّة... لا عزاء لها من وعد بلفور الذي ذبحها ولا يزال من الوريد الى الوريد... لا عزاء للأمة.. وقد فرّخ هذا «الوعد المشؤوم» الذي أعطى من خلاله من لا يملك لمن لا يستحق ارض فلسطين... فلسطين بالذات مهد الاديان وقلب الأمة... والرقعة الجغرافية للأمة التي، لمّا استهدفها الاستعماريون الاستيطانيون في ، كانت بها اكبر نسبة متعلمين في الوطن العربي قاطبة... بالضبط كما استهدفوا بعد 85 سنة من هذا الوعد المشؤوم بغداد الرشيد... بغداد الكتب والفلاسفة والمراجع العلمية... أليس الوعد مشؤوما الى حد ان الذين صاغوها واستساغوه لنا، حجر عثرة أمام واقعنا الذي انفصل بعنف عن عهد الازدهار والتقدّم عهد الفلاسفة وحركة الترجمة العظيمة هم انفسهم الذين يحاولون اليوم ان ينقدوننا بأخطائنا التي صوّروها لنا مغانم وتقدّما... لا عزاء للأمة، بل لا خوف عليها، فعندما يراجع الواحد منا تاريخ هذه الرقعة مذ أصبحت قوّة حضارية ترضع الانسانية حليب التقدّم والعلم والتحضّر الى يومنا هذا الذي أصبح فيه السيف في عطلة أبدية، والعقل في اجازة غير عادية، عندما نراجع هذا المشهد، ونرى الفلسطيني لم ينفكئ ولم يتراجع قيد أنملة عن حقّه في الحرية، وعندما نرى في الذكرى... ذكرى «الوعد» المشؤوم مقاومة في العراق تطلب الغفران والسماح من بغداد التي فرّطوا فيها ذات ليلة، فلا يمكن الا ان نقول ان هذه الامة تتصارع مع الفناء وستنتصر... انها أمّة تتصارع مع ذاتها ومع الآخر وبهذه الحدة. ورغم ذلك لم تنقرض، فإننا نجدد ان لا عزاڑء لها نعم... ولكن لا خوف عليها ولا هم يحزنون. هذه أمّة الازل، أمّة أبناؤها متشبعون بروح قدريّة وبروح حضارية ومسكونون بالخلق والابداع وبالتاريخ، لا يمكن ان يتحولوا الى تفصيل في التاريخ او الى شتات من البشر مثلما يشتهي لهم اولئك الذين من فرط تلطّخ اياديهم بالدم العربي، أصبحوا في عداد اللابشر...