الآن وغبار الثورات العربية لم يهدأ بعد وأوار نيران بعضها لازال يتصاعد تتكشف ملامح الموقف الغربي من هذه الثورات والرؤى التي يستبطنها العقل السياسي الغربي في تقييمه للشعوب العربية ومدى استحقاتها للحرية والديمقراطية...فكيف تتحدد المواقف الرسمية الغربية من الثورات العربية وماهي الخلفيات الفكرية التي تصدر عنها؟ وكيف يمكن تفسير حالة الفصام التي تقوم عليها هذه المواقف بين ادعاء الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية والحقوق المدنية وبين التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية والكليانية؟ بداية يمكن التأكيد أن حركة النهوض الشعبي التي تشهدها الدول العربية قد مثلت بالفعل لحظة صادمة للعقل السياسي الغربي بالنظر إلى عاملين أساسيين: أولا : اندلاع هذه الثورات ضد أنظمة حكم حليفة للغرب أو هي على الأقل تخدم مصالحه بشكل وثيق إلى الحد الذي أصبحت معه شريكا استراتيجيا في تنفيذ الأجندا الأثيرة إلى قلوب الساسة الغربيين والمتعلقة بمحاربة الإرهاب والتصدي للهجرة السرية والتحالف سرا أو علانية مع الكيان الصهيوني. ثانيا : مثلت هذه الثورات حدثا مفاجئا لمراكز القرار في الدول الغربية التي كانت تخطط لمستقبل هذه الدول إلى الحد الذي جعلها تضع سيناريوهات التحولات السياسية الممكنة في الدولة العربية وهو ما كشفت عنه وثائق ويكيليكس مثلا. ومن هذا المنطلق فان تعامل الأنظمة الغربية مع هذه الثورات في بداية احداثها كان متشنجا بصورة ملفتة للانتباه وهو أمر نلحظه في موقف وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة ميشال اليوماري التي اقترحت إرسال قوات شرطة فرنسية للمساهمة في قمع المظاهرات في تونس وكذلك في مواقف ايطاليا وبعض دول الاتحاد الأوروبي التي لم تكن راضية عن التحولات السياسية المتسارعة في الضفة الأخرى من المتوسط...لقد كان الانزعاج الغربي صارخا ومعلنا ليتطور في ما بعد إلى حالة من التخطيط الاستراتيجي المحكم للتحكم في مسار ومصير هذه الثورات عبر الضغط الاقتصادي كقوة ناعمة تجلت في استدعاء تونس ومصر إلى قمة الثمانية من جهة ومن خلال تحريك قطاعات من أصحاب المصالح الموالين للغرب فكريا وسياسيا وجعلهم يتصدرون المشهد الاعلامي والسياسي من خلال تقديمهم للرأي العام بوصفهم صانعي الثورات من جهة ثانية أو من خلال القوة العسكرية وهو أمر يمكن ملاحظته في التدخل العسكري في ليبيا، وكالعادة كانت المصالح أهم وأغلى عند الحكومات الغربية من كل القيم التي كان هؤلاء يرفعون لواءها، قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن حالة الفصام بين السياسي والقيمي التي نلحظها في المواقف الغربية قد تجد جذورها في بعض الخلفيات الفكرية التي يصدر عنها هولاء وخصوصا بالرجوع إلى ما يسمى«المركزية الثقافية الغربية» التي لا تعتبر بقية العالم (وخصوصا المنطقة العربية) جديرة بالديمقراطية باعتبار قصورها عن ادارة ذاتها من خلال قرارها المستقل(لاحظ أن النخب الموالية للغرب تردد رجع صدى صوت أسيادها وتعلن أن الشعوب ليست مؤهلة لحكم ذاتها وهو ما يفرض وصاية هذه النخب على جماهير الشعب التي ويا للمفارقة كانت تثني عليها لإنجازها الثوري) بالإضافة إلى خشيتها المبررة بالنسبة لها من أن أي نظام ديمقراطي حقيقي في المنطقة العربية لا يمكن بأي صورة من الصور أن يخدم المصالح الغربية بل ويمكن أن يتصادم معها بالضرورة خصوصا في الموقف من الكيان الصهيوني على سبيل المثال. إن الرؤية الاستراتيجية الغربية للإقليم الجغرافي العربي تجعله منحصرا في كونه مجرد مجال حيوي لممارسة الهيمنة السياسية والعسكرية والتنافس الاقتصادي لا أكثر أنه مجرد سوق مأهولة بمستهلكين فعليين أو افتراضيين، أنه فضاء تجاري لإنتاج وتسويق السلع المختلفة المادية منها والرمزية وهذا التصور الغربي المرتبط بمنطق السوق وبالمصلحة وبالتصور البراغماتي من حيث أن معياره الأساسي هو الربح وسيولة رأس المال يجعله بالضرورة في موقع مناقض ومناهض لما هو قيمي وهو ما يفسر حالة التوجس من أي دور سياسي فاعل للجماهير العربية، لقد ظلت الأنظمة الغربية ورغم الشعارات البراقة التي ترفعها تستلهم خطابا إيديولوجيا مسكونا بمشاعر التفوق وممارسة ادوار الهداية وشيطنة الآخر باعتباره حاملا للعنف مسكونا بالإهارب كل ذلك في إطار نظرية استعلائية تعتبر الثقافات الأخرى خصوصا العربية منها ثقافات تهدد القيم الكونية التي تزعم الثقافة الغربية أنها الحامل لها، وانطلاقا من هذه الخلفية يمكن فهم الحرج وهاجسها الديمقراطية والحقوق المدنية ولم تستخدم العنف إلى التغيير بل تمكنت من التغلب على أشد الدكتاتوريات عنفا وولوغا في الدم من خلال احتجاجات سلمية وتعبيرات مدنية راقية. على أن توصيف الموقف الرسمي الغربي لا يمنع من الإقرار بوجود تعاطف من المثقفين الغربيين مع الثورات العربية ولكن يظل هؤلاء بعيدين عن أن يكونوا هم صانعي القرار أو المحددين للسياسة الرسمية الخارجية. لقد بدأن الشعوب العربية بصنع أسطورتها الثورية الخاصة التي دخلت بها التاريخ من أوسع أبوابه فقد تحدت عنف الحكام بكل طغيانهم وتمردت على القولبة الغربية بكل صيغها وفرضت شعارها المركزي «الحرية أولا وأخيرا».