كان الكثير من الباحثين والمحلّلين العرب، قبل أحداث ثورة تونس ومصر، يترددون في اتهام الغرب واسرائيل بعرقلة المدّ الديمقراطي في العالم العربي وذلك لعدم امتلاكهم لمعطيات دقيقة تؤيد ما يذهبون إليه تارة، وخوفا من اتهامهم بتبني نظرية المؤامرة غير العلمية تارة أخرى.. لقد حاول الغرب، ولوقت طويل، تكريس صورة نمطية عن العرب مفادها أن هؤلاء غير مؤهلين للعيش في ظل أنظمة ديمقراطية لأسباب مختلفة منها تلك التي تضرب بعيدا في تاريخهم وتراثهم الثقافي والسياسي «نمط الاستبداد الشرقي»، ومنها ماهو آني نظرا لفشل حركات التحرّر الوطني العربي في تحقيق نظام ديمقراطي واعتماد الانقلابات العسكرية كأسلوب للتغيير.. برغم قدرة الشعوب العربية على تحطيم تلك الصورة في عدّة مناسبات خلال مرحلة الاستعمار وحتى في بعض التجارب الوطنية بعد الاستقلال، غير أن تلك الصورة استمرت بفضل النخب السياسية والثقافية المرتبطة ارتباطا عضويا بالقوى الاستعمارية التي فضلت قيام أنظمة استبدادية والتحالف معها حتى وإن كان ذلك على حساب قيم الديمقراطية وحقوق الانسان التي تدعي رعايتها ونشرها وحمايتها وأفضل مثال على ذلك هو مواقف الحكومات الفرنسية من أنظمة الاستبداد في المغرب العربي التي سادت بعد الاستقلال برغم نخبتها المتنورة التي درست في فرنسا وتشبعت بمبادئ الثورة الفرنسية. وقد أعطى قيام الدولة الصهيونية في فلسطين لهذه المقولة والصورة أبعادا جديدة إذ عملت الحركة الصهيونية على صياغة نظام سياسي عنصري في جوهره، نظام فريد من نوعه في العالم يستند على ديمقراطية زائفة أفلحت الدوائر الصهيونية في الترويج لها باعتبار أنها الدولة الديمقراطية التي تعيش في واحة محاطة بالاستبداد العربي. ومن نافل القول أن اسرائيل لم تجد صعوبة كبيرة في ترويج هذه الفكرة وتكريسها في العالم الغربي نظرا الى أن هذا العالم كان مصدر هذه الفكرة وانبعاثها.. وفي المقابل عملت اسرائيل بكل الطرق لوصول أنظمة الاستبداد العربي للحكم ومساعدتها على الاستمرار لأنها تمثل حليفا استراتيجيا حتى لا نقول عضويا لها.. إذ أن حاجة اسرائيل الأكيدة في الدول العربية، كانت ولا تزال، انتصاب أنظمة حكم مستقرة يحكمها طغاة يعيشون من فتات الغرب. فالمهم بالنسبة لها هو العمل من أجل إعاقة أي شكل من أشكال الحكم الديمقراطي في المنطقة والحفاظ على «الوضع الراهن» وهو الأمر الذي عبّر عنه بنيامين نتنياهو بعد اندلاع الثورة التونسية مباشرة بتأكيده على ضرورة الحفاظ على «الاستقرار والأمن في المنطقة». ومنذ انطلاق الثورة في كل من تونس ومصر ونتيجة للرعب الذي أصاب الصهاينة أخذت تنكشف وتتأكد بعض ملامح الايديولوجية الصهيونية التي تحتقر في عمقها وتفاصيلها العرب وفي هذا الاطار عبّر أحد جنرالات الجيش الصهيوني عن هذا الأمر بالقول إن «الاستعلاء يكاد يكون حاجتنا النفسية الى أن يكون العرب بدائيين وظلاميين ولا يستحقون ما نراه حقا انسانيا أساسيا ومفتاح السلام والنماء». كما أكد أنه من «الأفضل للعرب والعالم أن يحكمهم طغاة يعتمدون على قوة عسكرية، ويورثون أبناءهم الحكم مع الايهام بالانتخابات. الحرية ليست خيرا للعرب، لأن صبغتهم الظلامية ستندفع خارجا في موجة عنف موجهة الى المحيط. كل من يعتقد اعتقادا آخر ولاسيما الغرب الفاسد والرجل الساذج في البيت الأبيض، لا يفهم الحياة ببساطة أو لا يسكن هنا مثلنا ولن يدفع عن ذلك حياته». ولا تقتصر هذه الصورة النمطية على اليمين واليمين المتطرف بل إن اليسار الاسرائيلي، مؤسس الدولة لا يبدو بعيدا عن تكريس هذه النظرة العنصرية الاستعلائية، بل يمكن القول إنه يتحمل أكثر من غيره مسؤولية ترويج تلك الفكرة في أوساط اليسار الأوروبي. تماما مثلما سوّق لفكرة أن اسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وهو نفسه الذي آمن بأن نظاما ديمقراطيا عربيا سيشكل خطرا محققا على الدولة الصهيونية لأن إرساء أنظمة ديمقراطية في العالم العربي، ستؤدي بالضرورة الى وصول الأحزاب القومية أو الدينية ذات البرامج والمشاريع المعادية لوجود اسرائيل. وهو الذي عمل أيضا على اقناع الدول الرأسمالية الغربية بفكرة أن وجود أنظمة الاستبداد العربي أفضل ضمانة لاستمرار مصالح تلك الدول في العالم العربي وهو الذي كرس لفكرة دور اسرائيل في حماية تلك الأنظمة وتلك المصالح... (يتبع) بقلم: د. عبد اللطيف الحناشي