ما كان لهذا السؤال حول «الاسلاميون والفن» أن يوضع بالحدة التي هو عليها الان، لو لم تقع أحداث قاعة «أفريكارت» المؤسفة، لو نحينا جانبا مؤقتا هذا الحادث المؤلم وسألنا: هل هناك تخوفات على الفن التونسي في حالة وصول الاسلاميين الى الحكم؟ دون أن أفكر طويلا، أقول: لا، مع ملاحظة أولى في أن «الدّب لم يمت بعد حتى يباع جلده» على حدّ التعبير الفرنسي، والثانية في أن المكونين لهذه النوعية من الأحزاب التي تزجّ بالمقدس (الدين) في الحيّز السياسي، هي نوعية لا يمكن أن يطمئن لها قلب المواطن طويلا.. وال«لا» هذه ليس مردها ثقتي بالتيار الاسلاموي، فهي منعدمة لأن التجارب التي كانت مع من يشبهه في مصر (في مقتل الراحل فرج فودة وطعن الراحل نجيب محفوظ أو «نفي» نصر حامد أبوزيد وزوجته عن وطنهم، إلخ..) أو في الجزائر (مقتل العديد من الروائيين والصحفيين والفنانين من بينهم على سبيل المثال المغني الشاب حسني أو صديقي الروائي الطاهر جاعوط وغيرهما..)، هذه التجارب بيّنت أن امكانية الخطر موجودة وبإلحاح كما نرى بوادرها في مسألة المخرجة نادية الفاني وتهديد النوري بوزيد ب«القتل» دون أن ننسى الحملة ضد المفكر محمد الطالبي وعديد العلامات هنا وهناك حول المسرح و«عصيانه للّه» أو السينما التونسية و«نشر الرذيلة»، إلخ.. المغالاة في السياسة أمر طبيعي لا سيما بعد تكميم الأفواه لأكثر من ربع قرن، فما بالك حينما تنبني هذه السياسة على استثمار المقدس (الدين) لأغراض غير مقدسة، بل هي دنيوية لجهة الرغبة في الوصول الى الحكم، والمجاهرة بالاحتكام الى الأخلاق في صياغة البرنامج الثقافي والمشروع المجتمعي، كما عبر عن ذلك التيار الاسلاموي بكل وضوح في عديد المداخلات، إلا أني، في هذا الموضوع بالذات، لا ألعن المستقبل التونسي لسببين: أولهما: إن أتى حزب «النهضة» وطائفة من يحوم في حلقته الى الحكم عبر انتخابات شفافة ونزيهة، فإني أقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية وبنتائجها، ولا محيد عن ذلك.. هذا لا يعني الاستسلام للقضاء والقدر الاقتراعيين، بل سأعمل كل ما في وسعي كمثقف علماني وبوسائلي العضوية الكتابة للتأثير على هذا التيار وجمهوره وجذبهما نحو «الواقعية المسؤولة» وذلك بالدفاع عن حق الاختلاف في التعبير الفني والفكري وحق الفنان في دعم الدولة، خاصة في الميادين التي تتطلب أموالا لا يمكن للخواص امتلاكها.. وأظن أن جماعة «النهضة» ليسوا متخلفين ذوقيا ليؤمنوا ب«الفن النظيف». فهم يعرفون وإن تغافلوا عن المجاهرة به أن المزج بين الفن والأخلاق الحميدة لا يزيد الأخلاق الحميدة بريقا، بل يضع الفن موضع الوعظ، فيما لا علاقة بينهما.. هذا يقوم على لذّة الشك والآخر قوامه صلابة اليقين.. ثانيهما: تونس، وإن لم تكن مثل تركيا ولم تمر بفئة عسكرية تحرس الدستور منذ عام 23 من القرن الماضي، فهي ما انفكت تمثل موطن «الوسطية» في محيطها المتوسطي والعربي الاسلامي. فطيلة فتراتها المسيحية والاسلامية من تاريخها، لم تشاهد هذه الرقعة من الأرض الانغلاق والتطرف إلا في فترات قليلة جدا لم تؤثر بصفة جذرية على النسق الطبيعي للحياة بها.. وهذا النسق لا يكون على حقيقته إلا حينما يصبح التعبير الفني/ الفكري حرا وإن في الحصول على حريته، وجب عليه أن يصارع ويثور مثل كل الفنون في العالم.. ذلك أن في صراعه مع «الاستقرار الفني» وفي ثورته على «الروتين» التعبيري إضافة الى مناهضته العضوية للاستبداد، في هذا كله مناعة تطوره ليكون انعكاسا صادقا لتطور المجموعة الوطنية، ولو في تصوراتها الذهنية المخفية.. من هنا لا يمكن لحزب «النهضة» أومن الأحزاب الشبيهة له في التركيبة وإن خالفته في المضمون (أقصى اليسار) التحكم في مخيال التونسي وتعبيراته مهما انتدب من حراس ومتطوعين لحماية ونشر «العفّة الفنية» بين التونسيين. خلاصة القول: لا أخاف على الفن التونسي (بجميع أجناسه) لو وصل الاسلاميون الى الحكم، لأن تونس بلد متفتح دوما، والتونسي في حالاته العامة ليّن الطباع، يقبل دائما بالاختلاف فيألفه، بالجديد فيهضمه وبالوافد فيحتضنه.. هو وسطي المواقف لا يروم التطرف، يولّف بين المتناقضات ليلمّ شملها.. والاسلاميون التونسيون هم منه ولا أخالهم سيخرجون عن نسق الشخصية الأساسية التونسية العامة. هذا لا يمنع وجوب الحذر، كل الحذر من نشوة النصر لو حصل لا قدّر اللّه حزب «النهضة» على أغلبية متواضعة في انتخابات التأسيسي المقبلة وبها ومن أجلها يخلع سمات الوسطية عنه ليخضع الى ضغوطات يمينه السلفي المتطرّف الذي يمثل حقا الخطر، كل الخطر. (تصوير أمير بن عياد) خميس الخياطي (صحفي مستقل)