بقلم: عبد الجليل عبد ربّه من أهم الاشكاليات التي كانت ومازالت مطروحة على عديد الدول المصنّفة من العالم الثالث أو حتى المصنّفة في طريق النمو هي علاقة الدولة بموضوع الديمقراطية وقد ركزت عديد الدول المتطورة والغربية خاصة على اعتبار الدولة عائقا في تحقيق الديمقراطية التي ينشدون ولذلك فإنهم يستنتجون من هذا أن الحدّ من مشمولات الدولة هو السبيل الأمثل لتحرير قوى المجتمع الدمني ليقوم بدور المعدل والمدافع عن الحريات وحقوق المواطن للمساهمة في الشأن الوطني. غير أن التجربة التاريخية خاصة إثر التحولات التي عرفتها دول المسعكر الشرقي خلال ثمانينات القرن الماضي وما تعيشه أغلب الدول العربية والاسلامية حاليا من أوضاع بعد ما عُرف يبالربيع العربي كل هذا أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الديمقراطية الحقّ تقتضي دولة قوية قادرة على إدارة التغيير على الصعيد السياسي كما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي لأن الديمقراطية في مفهومها الصحيح فضاء لتكريس المواطنة وتعميق الوعي بالحقوق ودون الخضوع لإملاءات وإسقاطات مهما كان مصدرها لملاءمة الواقع الوطني مع الخصوصيات والامكانيات لاجتناب الانزلاقات والخوف من التراجع والسقوط في المتاهات والانحرافات والتي قد تهدّد سيادة الدولة وحتى كيانها وكذلك تركيبته المجتمع وبُنيته ووحدته. ولذا، فإن الديمقراطية تتطلب درجة عالية من النضج داخل المجتمع على مستوى النخب الفكرية والاجتماعية. وإن الانخراط في الحداثة يتكامل مع التعلّق بمقومات الهوية الوطنية والتمسّك بخصوصية الدولة الحضارية وان المرجعية الفكرية الوطنية غير منفصلة عن المرجعية السياسية التنفيذية وان التفاعل الإيجابي بينهما يضمن نجاح الدول في تحدّي المعوّقات والصعوبات. وإن تجذير القيم الوطنية من الذود عن التراب الوطني والدفاع عن حرمة الدولة وتحقيق التقدم والحداثة وسيادة الشعب وحرية الإرادة الوطنية كلها من واجبات الأسرة والمدرسة وإن تنشئة الأجيال على حب الوطن والاعتزاز به وترسيخ الوعي بالهوية الطونية وتنمية الشعور بالانتماء الحضاري ودعم التفتح على الحضارة الانسانية كلها عوامل من شأنها أن تنمّي لدى الناشئة حب العلم والعمل وقيم التضامن والتسامح. إن بلادنا يمكنها أن تستمدّ قوتها من ضرورة المزج المتكافئ بين الأفكار المور وثة لبناء طموحات المستقبل وهذا يتطلب استحضار إرث الماضي بأفكاره وإصلاحاته وإنجازاته وفهمه على ضوء ما يتطلبه الحاضر وما يقتضيه المستقبل. وإن الوطنية تستوجب احترام الرموز الدّالة على الماضي وعلى الحاضر ويتمثل لدينا الفكر الاصلاحي التونسي وزعماء الحركة الوطنية في هذا الموضع من تأكيدهم على وجوب اقتباس ما يوافق الشريعة الاسلامية مع المستجدات الغربية وما يعرفه العالم من تطور لأن مفاهيم الوطن والوطنية متطورة وغير جامدة وهو ما يعبّر عنه بحرب الافكار في مواجهة الافكار الجامدة والمتطرفة والتي لا تنسجم مع الثوابت الوطنية ولا تخدم سوى مصالح شخصية او املاءات لتيارات مختلفة وحتى قوى خارجية. وحتى تجتمع كل القوى الوطنية في خدمة هدف موحد غايته مصلحة الوطن قبل الاشخاص والاحزاب والمنظمات والجمعيات يتحتم التخلص من ترسبات الماضي وكل الخلفيات والحواجز التي تعوق التمشي السوي نحو مصالحة وطنية شاملة. فالديمقراطية المنشودة لا تتحقق في بلد مازال يعاني من هذه الترسبات. وبالرجوع الى الوضع الحالي ببلادنا فإن تحقيق مصالحة وطنية حقيقية وشاملة اصبح صعب المنال بناء على ما تعيشه الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من تجاذبات واحتقان ومن تتداخل للمصالح ومن تدخل خارجي ومن انفلات وعدم استقرار سياسي وحتى أمني أحيانا رغم المجهودات المشكورة للامن والجيش الوطني وهذا مرده للنظام السياسي والانتخابي المفروض وما أفرزه من هيئات مستقلة وأخرى «دستورية» أغلبها حاد عن دوره وبقي حبيسا لخلافات داخلية وتأثيرات سياسية فزادت الطين بلة وفشلت في اداء مهامها ويتطلب الامر مراجعة جدواها وبرامج عملها وأهدافها. الى جانب تناسل الجمعيات والمنظمات بأعداد كبيرة تحصل بعضها عى تمويلات خارجية مصادرها مشبوهة وأصبحت تتدخل في كل الشؤون حتى التي هي بعيدة عن مشمولاتها حسب قانون الجمعيات. اما المنظمات الوطنية والتي كان دورها الدفاع عن المصالح المهنية لمنخرطيها فقد اندمجت في المعركة السياسية بكل قواها مما أثر على مكانتها. وأما أجهزة الاعلام الوطني فإنها انخرطت في الاثارة والاستفزاز والتسابق نحو(البوز) والتركيز على الصور السلبية دون محاولة لابراز الايجابيات وبعث بصيص من الامل للمشاهد او القارئ او المستمع. وبطبيعة الحال لا تسأل عن أحوال الاحزاب التي فقدت كل مصداقية وواقعية ولمي عد يربط أغلبها اي رابط مع ما تعنيه البلاد سوى البحث عن الكراسي والمواقع واستغلال الفرص للتشهر والتذمر والتنابز والتنافر والتناحر وتبادل الشتائم احيانا حتى في مجلس نواب الشعب. إن الموقف الوطني يتطلب مراجعة لكل ما سبق ذكره والوطنية الحقيقية ليست «نزوة عابرة» او سحابة صيف او بدلة نغيّرها حسب الظروف وهي لا تقتصر في دعم الفريق الوطني فقط وانما هي أعمق وأشمل فهي دعم الوطن والدفاع عنه في أيام الرخاء والامن كما في أيام العسر والحرب.