مجمل الأسئلة التي أصبحت تطرح علنا أو في المحافل الخاصة حول طبيعة الاتحاد العام التونسي للشغل تذهب باتجاه المنحى السياسي ثم النقابي ونادرا ما يذكر السائلون أو يتذكرون الدور الثقافي لهذه المنظمة العتيدة، والدور الثقافي الذي لعبه الآباء المؤسسون والذين جاؤوا بعدهم للإتحاد في تأكيد الوعي الجمعي بتلازم الفعل الثقافي والنقابي وبالتالي الإجتماعي للإتحاد. يطغى الدور السياسي للإتحاد من مرحلة لأخرى فيطفو على سطح النقاشات و التحاليل التي تدور هنا وهنالك ويظل ذلك السؤال القديم المقيم:"هل أصبح اتحاد الشغل حزبا سياسيا نافذا يغير الحكومات ويقيم الوزراء؟ أم هو منظمة نقابية وطنية أدت رسالتها التاريخية في تحرير البلاد من الاستعمار وأسهمت مع مكونات الحركة الوطنية التحريرية في نحت المشروع المجتمعي التونسي بدءا من دولة الاستقلال إلى راهن الناس اليوم. يذكر الناس الزعيم المؤسس فرحات حشاد العظيم والزعيم أحمد التليلي صاحب الرسالة الشهيرة إلى الزعيم بورقيبة والحبيب عاشور واستقالته التاريخية (1946 .1952) من عضوية الديوان السياسي للحزب الحاكم في أحداث 26 جانفي 1978،ويذكرون عبد السلام جراد الذي ظل أمينا عاما للاتحاد من سنة 2000 إلى 2011 وصولا إلى السيد حسين العباسي (2011 .2017) وهو أول أمين عام للاتحاد بعد الثورة وسيذكر التاريخ دوره الفاعل في تأسيس منظومة الحوار المجتمعي الذي توج تونس ممثلة في الرباعي الراعي للحوار (الإتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان واتحاد الصناعة والتجارة والهيئة الوطنية للمحامين) بجائزة نوبل للسلام .. وها نحن نعيش الآن أمانة عامة جديدة انطلقت سنة 2017 مع السيد نور الدين الطبوبي وقد أراد لها التاريخ أن تولد في سياق سياسي اجتماعي مليء بالتحديات والصعوبات. وبالعودة الى موضوع اهتمامنا في هذه المقدمات حفرا في الذاكرة الثقافية للمنظمة وابرازا لدورها في مجال آخر هام نادرا ما يذكره المحللون والمؤرخون نقول أن الهوية الثقافية للاتحاد وعلاقته الجدلية بالثقافة بدأت منذ التأسيس مع الزعيم المؤسس فرحات حشاد الذي آمن بالبعد الاتصالي والثقافي في نشر ثقافة النضال حيث بادر ببعث جريدة الشعب وكان أبرز كتابها والتي تحمل منذ التأسيس إلى يوم الناس هذا الشعار الخالد «أحبك يا شعب» ..وأحبك يا شعب استهل بها حشاد أحد مقالاته ويقول فيه :"أحبك يا شعب ...فأحبك حين تبحث وتكثر في البحث عن مجرى أمور بلادك وسير قضيتك وحين تنتقد، وحين تصيح وحين تغضب وحين تدبر، وأحبك حين تدافع عن مختلف النظريات التي تخطر ببالك في سلوك السياسة العامة وحين تستفسر وتستجوب وتناقش وتحاسب ولكنك تترك النزاعات جانبا عند الشدائد وتنسى التشاكس عند العواصف فتهب بكل قوتك حيث تتلاقى ببعضك صفا واحدا..." شخصية فذة أخرى عاصرت حشاد وشدت أزره وكان لها دورها الرائد في حركة التحرير الوطنية وتركيز الأسس الأولى للمنظمة الشغيلة ونقصد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رجل الفكر والعلم والتسامح والوسطية والمواقف الحاسمة، والشيخ الفاضل كان أول رئيس شرفي للاتحاد تم انتخابه خلال انعقاد المؤتمر التأسيسي للاتحاد بتاريخ 20 جانفي 1946 والذي تم فيه أيضا انتخاب الزعيم فرحات حشاد أمينا عاما، والكيلاني الشريف والصحبي فرحات كأمينين مساعدين، وتذكر المصادر الدور الرائد للشيخ الفاضل مع الزعيم الخالد حشاد في توعية النقابيين في اجتماعات شعبية عبر مجمل جهات الجمهورية وقد نشر الشيخ في أول ماي من عام 1947 إنهاء نشاطه النقابي. بعد فترة التأسيس هذه يشهد تاريخ المنظمة الشغيلة قدوم كبير أدباء تونس إلى الأمانة العامة ونقصد الكاتب الفذ «محمود المسعدي»صاحب «السد» و «مولد النسيان» و «حدث أبو هريرة قال ..» و «تأصيلا لكيان» وغيرها .. لقد تحمل المسعدي مسؤولية قيادة الاتحاد مباشرة بعد اغتيال الزعيم المؤسس في 5 ديسمبر 1952 حتى انعقاد مؤتمر جويلية 1954 و انتخاب أحمد بن صالح أمينا عاما. و تقلد محمود المسعدي الأمانة العامة وهو أول مهندس لإصلاح المنظومة التربوية (1958 .1968) بعد أن تحمل مسؤولية رئاسة جامعة التعليم بالاتحاد.ويعتبر المسعدي من رواد الحداثة والتحرر والعقلانية في تونس. شهد المؤتمر الرابع للاتحاد سنة 1951 التحاق شخصية وطنية فذة ذات عطاء تربوي وثقافي ونضالي نقصد السيد أحمد بن صالح الذي انتخب أمينا عاما للاتحاد (1954 .1956) ودخل سنة 1957 الحكومة وزيرا للصحة ثم أسندت إليه في الستينات كل الوزارات الاقتصادية معا ليطلق التجربة الاشتراكية وقد تم عزله في 7 نوفمبر 1969 وبقية القصة معلومة... أحمد بن صالح خريج فرنسا وقد بدأ حياته أستاذا للغة العربية وآدابها بعد عودته من فرنسا سنة 1948 بالمعهد الثانوي بسوسة. وقد تميز كاتبا وخطيبا جريئا ويذكر تاريخ الاتحاد وقوفه ضد انسحاب الاتحاد من الجامعة النقابية العالمية ( FSM ) ومع ذلك التحق بعد ذلك للعمل بمقر الجامعة العالمية للنقابات الحرة. مع بداية الثمانينات تقلدت سنة 1981 مسؤولية الأمانة العامة للاتحاد شخصية ثقافية تربوية أخرى ونقصد الأستاذ الطيب البكوش أحد رواد اللسانيات والنقد الحديث في الجامعة التونسية وقد تحمل مسؤوليات نقابية سامية منها الكتابة العامة لجامعة التعليم العالي في الفترة من 1974 إلى 1977 ثم انضم إلى عضوية المكتب التنفيذي قبل أن يصبح أمينا عاما من 1981 إلى 1984 وقد دافع الطيب البكوش بضراوة عن الاتحاد و حقوق الشغالين في فترة عصيبة شهدت توترا شديدا بين المنظمة الشغيلة والسلطة. تلك هي اذن بعض المحطات الفارقة في مسيرة الاتحاد التي تحملت فيها شخصيات ثقافية بارزة قيادة الاتحاد ويكفي القول بأن أبرز وأكبر كتاب تونس في القرن العشرين كان نقابيا وارتقى إلى قيادة الاتحاد وقد توقفنا عند هذه الشخصيات اعتزازا بإسهامها في التأسيس وإشعاعها في التسيير. الاتحاد منظمة وطنية رائدة وعبر تاريخه الطويل كان خيمة الثقافة الوطنية البديلة فقد بعث المجموعات الموسيقية والمسرحية ورعى الكتاب والشعراء وبادر باستدعاء الفنانين والشعراء الملتزمين أمثال الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ومظفر النواب .. ووطنيا وقف الاتحاد إلى جانب مجموعات البحث الموسيقي وأولاد المناجم،وشعراء المناجم والهادي قلة وحمادي العجيمي... كما كان لجريدة الشعب وخاصة لما أدارها الصديق العزيز الأستاذ محمد الطرابلسي دور بارز ومن خلال صفحاتها وملحقها الثقافي خاصة-منارات- في احتضان الكتاب المختلفين ويذكرني هنا الصديق علي المهذبي بأن الكاتب توفيق بن بريك مثلا قد نشر أولى قصصه في ملحق الشعب بإشراف الصديق العزيز الكاتب أحمد الحاذق العرف. للاتحاد كذلك دعم متواصل في مجال النشر وله مهرجانه السنوي الذي انطلق من مدينة الكاف وصولا في دورته الأخيرة إلى توزر وقد حضرنا فعالياته وكتبنا عنها في «الشروق». الاتحاد إذن هو كل الأحزاب وهو خيمة الثقافة والبوصلة الاجتماعية للبلاد.