هناك لحظة دقيقة يحس فيها الانسان الذي يصارع داخل الحلبة ان الانتصار بدأ يلوح ويقترب وان العدو بدأ يتقهقر. وتلك اللحظة أحست بها جميلة يوم زارها في زنزانة الايقاف مجموعة مختلطة من ضباط المظليين من ذوي القبعات الحمراء والقبعات الخضراء لمحت من بينهم وجه العقيد بيجار قائد معركة عملية الجزائر.. كان متأخرا في الصف وكأنه يريد أن يختبئ خجلا مما كان يقوم به جنوده ومما كان يسلطونه على مناضلي الجبهة من أصناف التعذيب والإهانة والمعاملة اللاإنسانية. نظر اليها هؤلاء الضباط سريعا ثم انسحبوا وهم يتناقشون فيما بينهم وأدركت جميلة ان الاوضاع بدأت تتغير لصالحها وان هؤلاء المظليين أعلنوا ياسهم من كسرها نفسانيا والحصول على معلومات أهم من تلك التي اعترفت به ومما هو مدوّن بالوثائق التي وجدوها بحوزتها يوم ايقافها والتي تثبّت صفتها كإطار حركي في جبهة التحرير مكلفة بالاتصال والتنسيق بين قادة المنطقة الحرة بالعاصمة والمجاهدين في الجبال. أما عن مخابئ ياسف السعدي فلم ينجحوا رغم كل محاولاتهم الجهنمية في انتزاع اي معلومة منها. قضيت جميلة ليلتها في الزنزانة وفي الصباح أعادوها من جديد الى مكتب التحقيقات وأجلسوها أمام القبطان غرزياني الذي كان جالسا هو الآخر واضعا قدميه على الطاولة وهو يدخن سيجارة ويحتسي قهوته بعصبية واضحة. وسأل غرزياني جميلة وهو يغتصب الابتسامة اغتصابا: «أتريدين شرب قهوة!» فلم تجبه فأشار الى ضابط كان يجلس غير بعيد ان يبدأ استجوابها فشرع هذا الاخير بطرح أسئلته بلهجة جزائرية واضحة وكانت جميلة تجيبه بلغة فرنسية متقنة. كان يتوقف بعد كل سؤال وجواب ليترك الوقت لضابط آخر جالس وراء آلة رقن يسجل اعتراف جميلة. بعد ساعات طويلة من الاستجواب قيدت جميلة من جديد الى زنزانتها بعد ان أمضت محضرا تلاه عليه على عجل الضابط الراقن وسجل فيه اعترافات عامة، أحست جميلة انها مرشحة للتزوير ولكنها لم تكترث بمثل هذا السيناريو المعتاد من هؤلاء المظليين القادمين خصيصا من فرنسا بهد ف استئصال جبهة التحرير في العاصمة واخماد شعلة الثورة الجزائرية، لكن جميلة كانت مقتنعة أن نار الحرية التي اشتعلت لن تقدر على اطفائها اي قوة وان ساعة النصر بدأت تدق وان الشعب الجزائري الذي قام بإضراب عام في العاصمة رغم كل التهديد والوعيد أكد بما لم يعد يدعو للشك انه عقد العزم فعلا على ان تنتصر الجزائر. ورغم انهاكها البدني الكبير جرّاء ما عانته من تعذيب مادي ومعنوي جمعت جميلة ما تبقى داخلها من جهد وتوقفت عند باب مكتب الزنزانة وصاحت في وجه الضابط غرزياني ورفاقه: «تحيا الجزائر حرة». لم تكن جميلة تنتظر ان ترى ذلك المشهد حين قادوها صباح هذا اليوم 21 أفريل 1957 لدى فرقة الشرطة النظامية في منطقة لابيار في العاصمة ادخلوها مكتبا كبيرا مقفل النوافذ وفجأة سمعت صياحا بين الفرحة والألم فنظرت فرأت أخويها الصغيرين هادي الذي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره وياسف ذا الاربعة عشر ربيعا اللذين سارعا لمعانقتها والتشبث بتلابيب ثيابها ولم تقدر جميلة على حبس دموعها وفهمت انه وقع استجوابهما لكنها لم تقلق لذلك لأنها تعلم علم اليقين أنهما لا يعرفان شيئا عن مخابئ السعدي وعلي لابوانت اللذين يمثلان الهدف رقم 1 للمظليين الفرنسيين. بعد ساعة قيدت جميلة الى سجن بربروس في انتظار محاكمتها وزاد يقينها رسوخا ان ساعة نصر الجزائر قربت.