وُدعَت جميلة بوحيرد سجن بربوس في انتظار محاكمتها. في السجن ورغم احساسها العميق بأن محاكمتها غير بعيدة وأنها لن تكون غير مسرحيّة لتبرير حكم الاعدام فيها وفي رفيقاتها، فإنها ضاعفت نشاطها وزادت في حركيتها بهدف بث مشاعر الصمود والثبات في نفوس المناضلين المسجونين. لم يكن يجدُ الشكّ الى قلبها طريقا من أنّ ساعة الانتصار اقتربت وكانت جميلة ترى هذا الانتصار رؤيا العين فكانت تغسل ثيابها وتبدي اهتماما كبيرا بترتيبه وحين يسألها رفيقاتها عن هذا الاصرار المبالغ فيه في النظافة والتنظيف، كانت تجيبهنّ أنّها تستعد في كل حالات الاستعداد الأمثل فإن استشهدت لاقت الله نظيفة وإن انتصرت ثورة الجزائر وحلّ الفرح كانت جاهزة بملابسها النظيفة للاحتفال والزينة. لكن إيمان جميلة اللامحدود بالنصر النهائي لم يكن يعادله غير سخطها على الممارسات الوحشية للسلط الاستعمارية. كانت ترى كل صباح أمام سجن بربروس جموعا من المواطنين من كل الفئات ومن كل الأعمار ونساء بلحافهن الابيض وشيوخ بوجوههم الشاحبة وأطفال بملامحهم الشاردة، وكانوا كلهم جميعا ينتظرون واجمين معرفة أسماء من نفذت فيهم فرنسا حكمها بالاعدام وقطعت رؤوسهم بالمقصلة قبل بزوغ الشمس. وكانت جميلة ورفيقاتها ومن بينهن خصوصا جميلة بوعزة يتفاعلن مع كل ردّة فعل تصدر عن أحد الحاضرين من تلك الجموع، فكانت مُهجهن تتقطع ألما ونفوسهن تتفجّر غيضا وقلوبهن تدبّ حسرة إزاء هذا التقتيل الوحشي والممنهج. لكن جميلة ورفيقاتها تحدين ألمهنّ ووحشية الجلاّدين وقلبن المواقف وحوّلنها من مآتم وبكاء الى احتفالات بشجاعة الفدائيين والاعتزاز بشهادتهم من أجل قضية الجزائر المقدّسة. وكانت جميلة ورفيقاتها يردّدن عند كل اعلان استشهاد ذلك النشيد الشهير، نشيد الأم التي تواسي أبناءها رافعة يديها الى السماء لتشكو الى الله اجرام الغاصبين: «أبنائي.. فلذات أكبادي لا تبكوا سوف يعود أبوكم لم تسيل دموعي اني أغنّي نشيد الفرح أبنائي... فلذات أكبادي ان هذا اليوم مقدس لقد مات أبوكم شهيدا من أجل الحرية حكم عليه بالإعدام لأنه أراد الاستقلال وفضّل الاستشهاد تقدموا أنتم الى الأمام» وصعّدت جميلة ورفيقاتها مع مرّ الأيام من مواقفهن الشاجبة والرافضة للتقتيل الفظيع لأبناء الجزائر، فكان كلما نودي باسم المحكوم عليهم بالاعدام ردّدن نشيد (تضحيتنا الى الوطن خير من الحياة) ولم يلبث أن تحوّل هذا النشيد الى نشيد الجزائريين في العاصمة ومن ثم في الجزائر كلها، حيث كانت تنصب المقاصل لقطع رؤوس الفدائيين الذين قدّموا أرواحهم من أجل الحرية والكرامة. ضاق ذرع المستعمر من هذه الهبة العشبية وأدرك أن الأمر في انقلاب وأن السجّان بدأ يتحول الى سجين.