هذه الشهادة قدمت في مدينة الثقافة بمناسبة أربعينية فقيد الساحة الأدبية والثقافية حسين الواد التي نظمتها الجمعية التونسية للتربية والثقافة ودار الجنوب ومعهد تونس للترجمة برعاية وزارة الثقافة يوم 20 جويلية 2018. أسرة الفقيدة الكريمة، أصدقاء، زملاء، تلاميذ وطلبة وكل أحباء حسين الواد في هذا الجمع الموقر لقد ترجل أستاذنا عن الرواية، على حين بغتة.ومضى في طريق الصمت، قبل أن يكمل الطريق . ثمة قوس لم يغلق ورواية لم تكتمل وصوت لم يكن استسلم بعد للصمت والسكون، وفيما ننتظر اكتمال القوس مع الرواية جاءت المنية لتضع نقطة أخيرة ما، بعد رحلة أدبية امتدت أكثر من أربعين عاما متواصلا بلا انقطاع . لا عزاء لأحد بوفاة الأستاذ حسين الواد يكفي فقط أن نذكر اسمه وأن نجتمع اليوم على ذكراه، ذكرى عزيز غادرنا بجسده لكن ستظل روحه النقية معنا بذكرياته وأعماله الراقية . يمكن أن نعزي أنفسنا دائما كلما فقدنا مبدعا ومفكرا وقامة بقولنا لقد ترك لنا صرحا من الأعمال الخالدة. وقدم مشروعا أدبيا ونقديا سيظل في قلوب الناس. لكن الموت هزمنا لأنه حرمنا من إبداعات جديدة، إبداعات كان يمكن أن تصدر، لكأن المبدع سيبدأ الكتابة في تلك اللحظة التي حرمنا فيها الموت من مداده، من نصيب متجدد في حياة وجمال كان يمكن أن نعيشه. فنثور ونحزن ولكن نستسلم لسنة الحياة ونواصل الاحتفاء بفقيدها وفاء له. فما أجمل هذه اللحظات، لحظات الوفاء لهذا الرجل المبدع، الأديب، الناقد والمترجم : المعلم والانسان الراقي حسين الواد . سأحدثكم عن حسين الواد في بداياته الأولى في الثانوي في السبعينيات. فقد كان لنا الشرف بأننا كنا تلاميذه الأوائل في الثانوي من السنة الثالثة الى السنة السابعة (التي تعادل اليوم مستوى من التاسعة الى الرابعة). وسأسمح لنفسي في هذا المقام الجليل بأن أتكلم باسم هذا الجيل الأول الذي درسه في الثانوي قبل التحاقه بالجامعة. فلقد غادرنا في بداية سنة البكالوريا للذهاب الى معهد بورقيبة سنة 1980. فرفضنا الأستاذ الذي عوضه على الرغم من كفاءته وواصلنا المراجعة بدروسه وشروحه وأعماله التي سخرها لنا مثل " البنية القصصية في رسالة الغفران " على سبيل الذكر لا الحصر . وما جعلنا نتعلق بدرسه هو أنه لم يكن بالنسبة الينا أستاذ مادة العربية فقط. بل كنا ندرس في حصصه الأدب والفن والشعر والمسرح والسينما والعلوم والفلسفة .لم يكن البرنامج الرسمي المدرسي سوى مقدمة للتحليق في فضاء الإبداعات العالمية وتدريب أذهاننا ونحن في نعومة أظفارنا على الإبداع حتى أنه حدد مسارات العديد منا حتى أنني شخصيا توجهت نحو الآداب. وقد كنت متفوقة في العلوم. نعم لست أدري بعد كل هاته السنين لو لم أدرس عند هذا الأستاذ سوف أتوجه الى شعبة الفلسفة . فلقد توجه العديد من هذا الجيل الى الآداب متأثرا بأستاذنا الجليل. لم يكن فقط أستاذا بالنسبة الينا، وإنما كان نموذجا في الاستقامة ومثالا في المعرفة. كان معلمنا بأتم معنى الكلمة. هو رصين ومتزن نحتكم اليه في نزاعاتنا فنرضى بعدله ونحن في قمة عنفواننا وغضبنا وإقبالنا على الحياة .وحين غادر المعهد بقي رمزا وأسطورة لجيل بكامله. لي تجربة خاصة معه بقيت محفورة في ذاكرتي، مركوزة في ذهني. ففي السنة الرابعة آداب (الأولى ثانوي اليوم ) كان يدرسنا الترجمة. وكان يعطينا قصائد شعرية للترجمة رغم أننا كنا في أول سنة للترجمة. طلب منا ترجمة بيت لأبي نواس " صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ان مسها حجر مسته سراء". وطلب منا أن نترجم المعنى .فحولت البيت الى الفرنسية على الشكل التالي : :Là ou Bacchus traine sa toge dorée ,point de tristesse ,point de soucis .il n'y a que la joie et l'allégresse ففرح أستاذي بهذه الترجمة. وأثنى علي. وأخذ يقرؤها على كل الأقسام. ويشجعني وأنا في سن الرابعة عشرة. ولا أذكر أني قد فرحت مثل هذه الفرحة في حياتي الدراسية رغم ما نلته بعدها من مراتب وتشجيع وإطراء. الأستاذ حسين الواد، المفكر، الرمز يثني علي أنا، وأنا في هاته السن ويقول لي سيكون لك-إنه لشرف عظيم ولسعادة قصوى في الحقيقة- شأن في الترجمة، إن اخترت طريقها المسألة أعمق من هذا بكثير. وهذا ما أدركناه من بعد. لقد علمنا أن نعتني بالمعنى وأن ليس في هذا العالم ما هو أهم من المعاني والقيم. فالمعنى من عني وعانى أو هو المعاناة التي يعيشها اللفظ حتى يصل الى مدلوله في ثقافة ما. ومن هنا انطلق شغفنا بالأدب وبالمعاني وبالفلسفة . علمنا حسين الواد ونحن مازلنا صغارا أن نسمو على المتداول وأن نبحث عن المعاني والقيم. لقد كانت الرسالة واضحة لا معنى للإنسان خارج المعنى. وقد كنا نستمع اليه بكل حب واحترام. وقد اجتمع في شخصيته ما تفرق في غيره مع تواضع ورقي لا مثيل لهما . علّمنا أنه حين تسمو المعرفة تخرس الكراهية. وعلمنا أن نروم القمم. وأن ننشد السمفونيات الشاهقة .رحم الله الفقيد وأسكنه فراديس جناته. سيظل في قلوبنا وفي عقولنا.