كان لكلمة جميلة بوحيرد أمام المحكمة والتي أشادت فيها بتقاليد فرنسا الحضارية محذّرة ان يقع دنس هذه التقاليد والتعدي عليها إن سُلّط عليها حكم الاعدام كان لها الاثر البالغ في نفوس الملاحظين الأجانب والصحافة العالمية التي حضرت بكثافة لمتابعة جلسات المحاكمة. فلقد أثبتت جميلة بوحيرد بهذا الخطاب الراقي في تعبيره ومعانيه انها لا تكره فرنسا لكنها تحب الجزائر أكثر واختارت ان تكافح بأمانة وشرف من اجل ان تستعيد بلادها حريتها وكرامتها وانها بهذا الموقف الحضاري انما تسير على خُطى كبار المكافحين والمجاهدين الجزائريين وعلى رأسهم الامير عبد القادر الجزائري الذي قاتل فرنسا بشرف الابطال ودونما السقوط في الحقد والكراهية. كما ان جميلة وهي تعلن يقينها بأن المحكمة ستقرر تسليط حكم الاعدام عليها أحرجت العدالة الفرنسية برمتها ووضعتها في قفص الاتهام وألقت بذلك الشك على حكم المحكمة حتى قبل ان يعلنه القاضي. وقد كان لهذا التمشي الذكي الذي وقع التخطيط له مع محاميها جاك فرجاس التأثير الايجابي الكبير في نفوس الملاحظين الحاضرين وبلغ صداه أصقاع العالم عبر الصحافيين الحاضرين ولقد قال المحامي فرجاس لجميلة وهم يعيدونها الى القاعة قبل رجوع هيئة المحكمة للتصريح بالحكم: «تشجّعي فكل شرفاء العالم يقفون اليوم الى جانبك!». وأوقفت جميلة أمام هيئة المحكمة للاستماع الى التصريح بالحكم وتلا القاضي بصوت منخفض وهو يتململ في بزته العسكرية حكم الاعدام، ولم يكد يُنهي تلاوته حتى انطلقت جميلة في الضحك بقوّة وعصبية وغطّت قهقهتها ضوضاء الاستعمماريين الحاضرين في القاعة والذين هلّلوا وصفقوا طويلا عند النطق بحكم الاعدام. وانتاب القاضي ارتباك يشوبه خوف واضح فصرخ في وجه جميلة قائلا: «لا تضحكي يا آنسة الأمر جدّ جدّي!». لكن جميلة واصلت ضحكها وكأنها تريد أن تؤكّد للعالم الذي تابع هذه المحاكمة أن ما شاهده لا يستحق أن يُسمّى عدالة لما تضمنته هذه المحاكمة من حجج كاذبة وشهادات مزورة واعترافات مفبركة وضحايا مقصودين في الأخير، وانما هي مسرحية هزلية لا يمكن أن تثير غير ضحك هستيري وإنها هي أول من يضحك لهذه المسرحية. وقيدت جميلة إلى السجن وكان أول من زارها بعد صدور الحكم أمها بيّة بوحيرد. وقفت في قاعة الزيارة شامخة بلحافها الأبيض، وابتسامة رقيقة بادية على شفتيها، عانقتها جميلة وقالت: «ماما ربّما هذه آخر مرّة ترينني فيها، انني سأعدم هل تريدين أن تقولي لي شيئا». سكتت أم جميلة ثم ردت بصوت هادئ ثابت: «أنت فداء للجزائر لا يهمّ أن نعدم كلّنا من أجل الجزائر، أنا أمّك والجزائر أمّنا كلّنا». أحسّت جميلة بوخزة لم تدر إن كانت بسبب ألمٍ أم باعتزاز بوالدتها وعضّت على شفتيها حتى لا تبكي لكنها تفاجأت وهي ترى سجّانتها الفرنسية تبكي بحرارة ثم تنحني لتقبّل يد والدة جميلة بوحيرد وهي تقول: «أنا اليوم تشرّفت برؤية مريم العذراء». وعلمت جميلة بعد أيام قليلة أن هذه السجّانة استقالت من عملها فأكبرت موقفها وأدركت مرة أخرى أنها كانت على حق لمّا قالت لمستجوبيها إنها لا تكره كل الفرنسيين وأن فيهم فضلاء وفضيلات يحبّون الحرية ويضحّون من أجلها.