بقلم المؤرخ محمد حسين فنطر (المختص في التاريخ القديم والآثار الفينقية البونية وتاريخ الأديان) وخلاصة القول إن أسطورة قرطاج استمدت سداها ولحمتها من مصادر ثلاثة وهي مدينة صور وجزيرة قبرص والسواحل الشرقية من لوبة لكنّها ما انفكت تتجدد أخذا وحذفا من جيل الى جيل ومن فيه إلى فيه ومن قلم إلى قلم حتى وصلت إلينا في زيّها الحالي. فكأن كل من رواها اضاف إليها ما كان يريده لها وحذف منها ما يستوجبه سياق روايته أو ملحمته فضلا عمّا تفرضه قراءته للأحداث ورؤيته لتاريخ الفينيقيين وثقافتهم، فلم يتحرج الشاعر اللاتيني ورجليوس Virgile من حشر قصة حبّ بين الأمير الطروادي أنيوس Enée الذي خرج من طروادة هائما على وجهه على متن سفينة عبثت بها الرياح، كادت تلتهمها الأمواج العارمة، ولئن قلت لم يتحرج الشاعر اللاتيني فذلك إشارة إلى البون الشاسع بين زمن انيوس وزمن عليسة، فالأمير الطروادي عاش في نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد وقصّة الأميرة عليسة لم تكن قبل نهاية القرن التاسع قبل الميلاد، فبينهما فاصل زمني ينيف عن قرنين. هذا وقد تغنى ورجليوس بمغامرة أنيوس الطروادي مع عليسة الفينيقية الصورية في بداية القرن الأول قبل الميلاد وكان ذلك بطلب من الإمبراطور أجوستوس Auguste الذي تبوّأ عرش الامبراطورية الرومانية من سنة 27 قبل الميلاد الى سنة 14 بعد الميلاد وهو الذي أحيا قرطاج بعد موتها عملا بوصية أبيه المتبنّي يوليوس قيصر Jules César. أمّا الأسباب والأهداف التاريخية التي أنجبت قرطاج، فقد يستشفّها المؤرخ في الأوضاع التي سيطرت في الشرق والغرب: فشرقا كانت المدن الفينيقية اذ ذاك تعيش خطرا أشوريّا يهدّد كيانها وأموالها: وقد كان ملوك أشور يعبرون الفرات في طريقهم نحو السواحل الكنعانية يغنمون، وفي حولياتهم ما يفيد أنّ أول حملة قام بها الأشوريون نحو البحر وجبال الأرز تعود الى عهد تجلتفليسر الأول (1120 1074 قبل ميلاد المسيح) وتواصلت الحملات الأشورية ومنها غزوات اشورناصر بعلالثاني (888859 ق. م) وفي حولياته ما يشير إلى ما كانت تعانيه المدن الفينيقية من جبروت ملوك أشور، وثبت أنهم كانوا يردون ضمّها والقضاء على كيانها السياسي واستغلال قدراتها الاقتصادية ووضع ايديهم على كنوزها. فليس من الغريب أن تتوقع المدن الفينيقية هذا التصعيد في سياسة الأشوريين إزاءهم ولا يستغرب أن تفكّر في حل يخلّصها من الملزمة. بات الغول الآشوري يتهيّأ للإجهاز على فريسته وتهشيم هياكلها.