انعقدت قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل مؤخرا بحضور قادة 29 دولة عضوة في الحلف و لعل هذه القمة و المشاركة العربية تستدعي تحليلا فالحلف يضم من أبرز أعضائه الجمهورية التركية و كان من الحكمة لدى بعض الدول العربية المشاركة الاستمرار في سياسة الحضور في المؤسسات الدولية كشريك ناجع في مقاومة الإرهاب و إثبات حقها المشروع في السيادة الوطنية و فرض مواقفها في مساندة الحقوق الفلسطينية دون تردد في محافل الغرب فالحلف منذ تأسيسه سنة 1945 في أعقاب إنتصار الحلفاء في حربهم ضد النازية الهتلرية حينها بدأت الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي بزعامة ما كان يسمى الإتحاد السوفييتي و بين المعسكر الغربي الأطلسي بزعامة الولاياتالمتحدة لأن موسكو المنتصرة هي أيضا على ألمانيا النازية و إيطاليا الفاشية أسست حلف وارسو (على اسم عاصمة المجر التي انعقد فيها أول إجتماع للحلف الشيوعي العسكري) عاش العالم كله مخاطر الحرب الباردة و تداعياتها بل تحولت إلى مصادمات مسلحة خطيرة في حرب الهندالصينية و الحرب الكورية و كادت تؤدي الى مواجهة نووية في حصار كوبا سنة 1962 و لم ينج العالم من ويلات الجحيم المبرمج إلا بفضل ما سمي (توازن الرعب) أي ببلوغ العملاقين درجات متساوية من القوة النووية جعلت كليهما يتخوف من ردة فعل الطرف الثاني في حال اندلاع الشرارة فما كان منهما حينئذ سوى اللجوء للحذر و الحيطة و تعديل الخطاب الحربي ثم في بداية السبعينيات الشروع في التلويح بالحلول السلمية و اجتناب التهديد و تقديم التنازلات إلى أن توجت هذه المجهودات الإضطرارية بمعاهدة هلسنكي التي وقعها بالخصوص بريجنيف الروسي و نيكسن الأمريكي لتدشين عهد جديد من التوافق النسبي و التخلي تدريجيا عن السباق النووي على الأقل قولا و تصريحا لا فعلا و تطبيقا. هذه خلفية الصراع التقليدي بين الغرب و الشرق الذي وضع العرب و كل الشرق الأوسط في منزلة ثانوية من الإهتمام لأن عناصر جديدة فاجأت المعسكرين و غيرت معادلات التاريخ السياسي الحديث و أبرزها تحطيم جدار برلين سنة 1989 و بداية مسلسل إنهيار الأمبراطورية الشيوعية بتفكك جمهوريات الإتحاد السوفييتي و توحيد شطري ألمانيا و التحاق أغلب الشعوب الأوروبية الشرقية بالمعسكر الأطلسي الأمريكي و كاد حلف الناتو ان يفوز بالإنفراد بالأحادية القطبية إلى أن وصل بوتين الى رأس السلطة بمشروعه الأمبراطوري فأعاد الروح القيصرية للأمة الروسية إلى درجة تمرير صفقة القرم دون ردود فعل غربية ثم حلت الصين بقوتها الإقتصادية و نفوذها الاستراتيجي فتغيرت كل المعادلات و أعيدت كل الحسابات لكن ما يهمنا نحن العرب هو معرفة موقعنا الحقيقي على رقعة الشطرنج الاستراتيجية الدولية و كيف نحمي مصالحنا في عالم متغير بسرعة مدهشة و لا مكان فيه للضعفاء و الخانعين ؟ فنحن اليوم نواجه مشروعا متفقا عليه لتصفية الملف الفلسطيني نهائيا دون أن ندرك أسرار العلاقات الدولية المعقدة والمصالح الأنانية المتشعبة فنوظف طاقاتنا لخدمة شعوبنا و نحمي هوياتنا و ننسق جهودنا و نوحد غاياتنا بابتكار مشروع حضاري عربي مستقبلي وسط هذه الأدغال من القوى المتصارعة حولنا و الطامعة في تقاسم خيراتنا كغنائم حرب ؟ اليوم في أواسط عام 2018 نحن أمام غرب مفكك و المؤشرات تتأكد كل يوم حين نرى موقف الرئيس الأمريكي ترامب محرجا ينتقده زعماء حزبه و الحزب الديمقراطي و عديد القوى الدستورية الأمريكية لأنهم غير راضين عن أدائه أمام بوتين في قمة هلسنكي (14 و 15 يوليو) نرى ترامب يتراجع و يعترف بوجاهة استنتاجات (مولر) بخصوص التدخلات الروسية في إنتخابات 2016 الأمريكية ثم نرى تكتل الدول الأوروبية ضد قرار ترامب بالانسحاب من معاهدة النووي الإيراني كما نرى قمة التصدع الغربي باندلاع الحرب التجارية بقرار ترامب فرض الضرائب الثقيلة على منتجات الدول الأوروبية (حلفاؤه التقليديون) و الصينية والروسية فنشهد لأول مرة منذ سبعين عاما اصطفاف فرنسا و بريطانيا و ألمانيا و دول أوروبا إلى جانب الصين و روسيا في رفض قرارات ترامب ! أما عالمنا العربي فهو أشد تفككا من الغرب و أفدح وضعا بسوريا و حربها الأهلية و الدولية و عراق منتفض من أجل الماء و الخدمات الأساسية و ليبيا المتوغلة في نفق العنف و يئن تحت القصف و استحالة الحسم العسكري و شمال إفريقيا المعاق بليبيا و انعدام الدولة فيها و بتونس الداخلة في أزمة اقتصادية و سياسية و مغرب يواجه غضب شبابه و جزائر حائرة في توجهات مصيرها مع تفاقم معضلة الصحراء بين غربية و مغربية مما عطل وحدة الشعوب المغاربية على مدى جيل كامل ! إننا أمام تصادم غرب مأزوم بعرب مأزومين لم نستخلص دروس التاريخ القاسية و لم نتعلم من أخطاء ماضينا.