يشير صاحب نظرية نهاية التاريخ المفكر الأمريكي «فرنسيس فوكوياما» في أحدث دراساته عن أزمة الهوية والنزعة القبيلة الجديدة الى أن كل التحولات التي تشهدها المجتمعات العالمية مع بداية الألفية الجديدة، ترتبط بشكل او بآخر بالتحولات الاقتصادية والتكنولوجية للعولمة لكنها أيضا متجذرة في ظاهرة صعود سياسات الهوية. في تفسيره لهذا المعطى يضيف " فوكوياما " أن السياسة خلال القرن الماضي كانت في معظمها تحددها المسائل الاقتصادية: كانت السياسة من جهة اليسار تعتمد على العمال والنقابات العمالية وبرامج الرفاه الاجتماعي للطبقة الوسطى وسياسات وسيناريوهات إعادة التوزيع ... ومقابل ذلك كان اليمين مهتما بشكل أساسي بتحجيم حجم الحكومة وتعزيز القطاع الخاص. أما اليوم – وكما يرى فوكوياما «فأن السياسة أصبحت تتحكم فيها مسائل الهوية أكثر مما تتحكم فيها المشاغل الاقتصادية والأيديولوجية». 2 – هذا المدخل النظري لهذه المقدمات يفسر تماما حيرة أوروبا أمام المأزق التاريخي الذي وضعته امامها هوية الحقوق والتطبيقات التقنية للديموقراطية وما أفضت اليه من صعود ليمين متطرف يرفض الادماج ويؤسس لمجتمع مغلق.. هذه الحيرة الأوروبية التي جعلت الرئيس «ساركوزي» مثلا يحدث في العام 2007 وزارة للهوية والهجرة.. وجعلت الرئيس الحالي لفرنسا إمانويل ماكرون يعيش على أمل قيام اسلام فرنسي وحلم استعادة الفرنكوفونية لمكانتها التاريخية. نجد هذه الحيرة في أمريكا تتشكل في شعور حاد بخيبة امل تكتسح المخيال الأمريكي الجمعي بسبب سياسات «دونالد ترانب» والثقافة التي افرزتها والتي غيبت الهوية «الراقية» للشعب الأمريكي. في ألمانيا هنالك كذلك دعوة يطلقها زعماء اليمين ويلحون في تكريسها مطالبين بوجوب: «عودة الألمان الى الأمور التي تهمهم: من نحن الألمان ومن أين نأتي والى أين نحن ذاهبون؟؟» لقد أحدثت العولمة تغييرا اقتصاديا واجتماعيا سريعا ولكن للعولمة نتاجات أخرى تكرس التنوع والتعدد وتكاثر المجموعات وبالتالي صعود الهويات وانفجارها التي كسرت الحدود الضيقة وخرجت للعلن بتعبيرات مختلفة وأقليات عابرة للقارات والعواصم والحضارات تعتقد بأن هوياتها الوطنية أو الدينية أوالإثنية أو الجنسية ... لا تلقى الاعتراف الكافي. ولم تعد سياسة الهوية ظاهرة صغيرة تظهر فقط في الحدود الضيقة أو على خلفية المناوشات ذات الرهانات المحدودة الضيقة أو على خلفية المناوشات ذات الرهانات المحدودة في الحروب الثقافية التي تدعمها وسائل الاعلام. وبدلا من ذلك أصبحت سياسة الهوية مفهوما رئيسيا يفسر جزءا كبيرا مما يحصل في الشؤون المحلية والعالمية. 3 – في الحالة التونسية، ان شباب ثورة الياسمين الذين انتفضوا وجروا وراءهم شرائح من شباب المدن والقرى التونسية، وبالتالي بقية المجتمع كانوا يبحثون عن هوية تعرفهم ارتبطت أساسا بالعمل والكرامة .. وخلال حكم الترويكا (2012 2013) عاشت تونس معركة أخرى من معارك الهوية وخلال كتابة دستور 2014 من قبل المجلس الوطني التأسيسي عاشت تونس كذلك على وقع جدل حول مضامين الدستور الجديد .. هذا الجدل الهوياتي عاد بحدة بعد يوم 1 جوان 2018 تاريخ صدور تقرير الحريات الفردية والمساواة بشأن مجموع المضامين السياسية والقانونية والدينية والأخلاقية ومسائل الأحوال الشخصية وقضايا الحريات والمساواة التي تضمنها هذا التقرير. 4 – تاريخيا عرف مسار الهوية في تونس «صراعا» معلنا حينا وخفيا أحيانا بين تيارين اثنين: تيار محافظ وآخر تحديثي، تقود الشق الأول مؤسسة جامع الزيتونة التي امتاز اغلب مشائخها بسعة العلم ووسطية الرأي أما الشق الثاني فقد مثله الشباب العائدون من الجامعات الفرنسية والمتشبعون بثقافة فرنسية تنويرية ومن رموز هؤلاء الزعيم «الحبيب بورقيبة» و»صالح بن يوسف» والدكتور «محمود الماطري» و»محمود المسعدي» وغيرهم .. خلال صراعهم الوطني مع فرنسا المستعمرة كانت الهوية التونسية التي عبروا عنها بالشخصية التونسية وأحيانا بالذاتية التونسية سلاحا رفعه هؤلاء الحداثيون في وجه فرنسا التي كانت تعمل على طمس معالم الشخصية التونسية بالفرنسة والمسخ والتغريب. بعد استقلال البلاد أصبحت الهوية فكرا وجسرا للعبور الى التحديث والمدنية والعصرنة. ونذهب هنا الى ما يذهب اليه الزميل زياد كريشان من أن حركات الإسلام السياسي الوافد حديثا على المجتمع التونسي لم تكن تستعمل مطلقا مفهوم "الشخصية الوطنية " أو "الهوية العربية الإسلامية " وذلك لسبب يخص المرجعية الفكرية والفلسفية لهذه الجماعات فالهوية نتاج التاريخ وتصورات وابداعات وأحلام وأخلاق البشر بينما « .. حلم الإسلام السياسي هو إعادة الناس أفرادا ونظما ومجتمعات الى حالة من النقاوة و(المثالية) العقائدية والخارجة عن الزمان والمكان...» الإسلام السياسي كان دائما ضد الهوية الوطنية أو القومية باعتبارهما انحرافات عن العقيدة الصحيحة ونوعا من أنواع الاستلاب الحضاري.. 5 – يرى الأستاذ الشاذلي القليبي – ونحن معه – أن ثقافة التونسيين الإسلامية منبعها مؤسسة جامع الزيتونة، فالاسلام بفضل هذه المؤسسة المباركة متأصل منذ قرون في جميع فئات المجتمع التونسي: فلا حاجة بنا الى حملات جماهيرية للتوعية بتعاليم الإسلام إذ هي حاضرة ثابتة جيلا بعد جيل في ضمائر الجميع كافة..» أما ما قام به زعيم التحديثيين ومؤسس الدولة المدنية التونسية من اعمال تحديثية فمن خلال اجتهادات طبقا للمنطق الإسلامي لا من خارجه وبالاستناد الى آيات قرآنية مثل التي تتعلق بتعدد الزوجات وتعذر العدل والانصاف بينهن جميعا وفي ذلك إشارة الى أن الإسلام يحبذ الاقتصار على زوجة واحدة (شهادة للأستاذ الشاذلي القليبي). 6 – التونسيون يواصلون – اليوم – جدلهم حول الهوية ولعلهم سيضطرون لخوض معركة أخرى من معاركهم الحضارية أمام قطعيات "الشريك المحافظ " في الحكم ومآزقه أمام سيرورة التحديث التي يمضي باتجاهها مجتمع بأسره. فلا مجال اليوم أمام التونسيين - أحزابا في الحكم وعلى هامشه أو تعارضه ومجتمعا مدنيا ونخبا - غير التفاوض والعمل المشترك من اجل مجتمع متعايش ودولة قوية وعكس ذلك هو الفشل والانهيار وغرق السفينة في غياهب البحار حيث لا نجاة لأحد. معركة الهوية اليوم تدار على عتبات الفوضى.. ليس بعيدا عن الفوضى ذاتها!