في خضم النقاش المفتوح هذه المدة حول قضية الحجاب اعتقد انه من الواجب ابداء الملاحظات التالية. لا بد من الانتباه الى ضرورة وضع النقاش في سياقه الفكري المدني خارج محاولة المحاججة من داخل النص الديني بما يعنيه ذلك من مغامرة غير محسوبة تقع في شباك التأويل المفتوح بموجب حيوية النص المقدس وثراءه على كل انواع النتائج والخلاصات الخادمة لكل الرؤى حتى أشدها تناقضا. اذ نَجد مثلا في موضوع الحال كل مايمكن ان يؤكد في القرآن والسنّة وجوبية الحجاب كأمر شرعي مثلما نجد ايضا نقيض ذلك نزعا للححاب عن كل شرعية ووجوبية دينية ترقى لمستوى الفريضة. الانجرار لنقاش مسألة الحجاب بآلية النص والتاريخ هو وقوع في فخ الاستدراج الاصولي الذي يهوى تحويل القضايا المدنية والسياسية الى قضايا دينية ليطبق على ضحاياه بأسلحة النص المبين وفتاوى الحلال والحرام وقابلية الجمهور المسبقة للتسليم الخاشع امام ما استبطنه صحة او خطأ كأوامر الاهية مقدسة من الصعب ان ينزعها من عقله مهما كانت قوة الاقناع المضاد (هذا طبعا ان كان هذا الاقناع المضاد مقنعا أصلا!!). لا بد من التذكيران نقاش مسألة الحجاب ليس جديدا في تاريخ الجدل السياسي التونسي بل ارتبط دوما بظرفية وسياق تنزّل فيه تاريخيا واعطى من بنيته وتفاصيله وتوازناته وحسابات فاعليه خط سير هذا الجدل واتجاهاته. ومن المفارقات اللافتة ان خروج الزعيم بورقيبة ثلاثينات القرن الماضي الي ساحة الكتابة الاعلامية كان مع مقالة جدالية له يدافع فيها عن الحجاب ضد سياسات المسخ الاستعماري وانسجاما مع خطاب هوية متصل بهموم التحرر الوطني. بورقيبة العلماني المناور هو ذاته الذي شحن عهد بناء الدولة الوطنية بطموح تحديثي تعامل مع الحجاب كأحد مفاصل طموحه لكن هذه المرة في اتجاه الدعوة لنزعه في سياق رؤية التحديث لصورة المرأة كمشارك فاعل في الحياة العامة لا ككيان منزلي محجوب عن حركة مجتمعها. كانت ذروة المشهدية الدالة على هذه الرؤية صورة الزعيم بورقيبة وهو ينزع بكياسته المرهفة غطاء السفساري من على رأس امرأة تونسية داعيا اياها في تلك اللقطة الشهيرة ان تخرج للحياة. لكن في ما تلا عشريتي التحديث الاولى المندفعة بحماسة مرحلة البناء الوطني بدأ مجتمع الاستقلال يتحسس نفسه كمجتمع تراتبية طبقية اعادت انتاج خريطة اجتماعية من الفوارق ومظاهر الحيف واللاتوازن الجهوي اخرجت لقاموس الاحتجاج ملبسا رمزيا مع بروز التيار الاسلامي اواخر السبعينات منتعشا بزخم صور ثورة المضطهدين القادمة من ايران الخميني ليصهر مشروع الاحتجاج الطبقي على غبن مجتمع الفوارق المتنامي وغطرسته الرمزية المستفزة في مشروع احتجاج سياسي موحد هو احتجاج «كل المجتمع المسلم بطبقاته ضد الدولة التغريبية بكامل خياراتها». بدأ الحجاب في التحرك ضمن الفضاء العام انطلاقا من بؤرة الجامعة كوشم سياسي لنشطاء التيار الاصولي ليتخذ شكل الشعار المظفّر المتنقل للحركة الاصولية في ذروة صعودها الذهبي عشرية الثمانينات في تقاطع لافت بين خطاب الاحتجاج الاسلاموي وارضية الغبن الاجتماعي والطبقي التي تقف عليها بنات تونس وطبقاتها المحرومة رغم توسع دائرة الانتداب الطبقي لنشطاء الحركة الاصولية ليبدأ الحجاب بالبروز في اوساط الطبقة الوسطى وكوادرها العليا لكن في انضباط كامل خلال الثمانينات لهذا الزي كوشم سياسي بل أكاد ان اقول كوشم تنظيمي بشكل مباشر. كف الحجاب عن ان يكون سلاح ابناء الطبقات المحرومة فقط ليوزعه التيار الاصولي كشفرة متحركة اخترقت الدائرة الطبقية المحدودة لتنتشر مظاهره في الضواحي المترفهة اين تعاطفت حتى بعض وجوه نخبة الوجاهة العائلية المنحدرة من اوساط البورجوازية البلدية التقليدية مع مشروع الحركة الاصولية وصل الى حد تقدم بعض شيوخها لرئاسة القائمة الانتخابية البنفسجية لهذا التيار أثناء انتخابات 89 وهو الشيخ الاخوة الذي جلب خطابه السلفي المحافط الانتباه الى حقيقة مشروع النكوص الذي يحمله التيار الاصولي رغم حرصه على المناورة والتخفي وراء ادعاء الانسجام مع مكاسب التحديث المنجزة في البلد. انتهت هذه المرحلة بالنتائج المعلومة وتمكنت الدولة من احباط مؤامرة الاحتواء والانقلاب التي خططها التيار الاصولي لتضمر بشكل موازي رموزه السياسية المتحركة في الفضاء العام لكن الطارئ الجديد في العود الاخير للحجاب هو في تقديري صنف جديد من اصناف الاحتجاج متصل بحيرة جامحة تسري في مناخ عولمة الفضاء الاتصالي للإجابة عن سؤال الهوية في ظل توترات سياسية وحضارية دولية مؤثرة. في زاوية معينة اعتقد ان نظامنا التعليمي لم يوفق رغم سلسلة الاصلاحات الايجابية المتوالية على الاجابة عن سؤال الهوية من مدخل اللسان على الاقل. ففي اللحظة التي راهنّا عليها من اجل نحت شخصية جيل متمكّن من لغته العربية منفتح على لغات العالم كالفرنسية والانقليزية نعاين للأسف نتائج مثيرة تؤكد ان هذا الجيل فشل وهو يطمح للالمام المتعدد باللغة في ان يتقن لا اللسان العربي ولا اللسان الفرنسي ولا اللسان الانقليزي. انسحاب مصادر الاعلام المتعددة على الاقل الفرنسية منها من دائرة التأثير على صياغة الرأي العام الوطني ملأه الزخم الجديد للقنوات العربية وما يحمله خطابها في مجمله رغم تباين مرجعياته السياسية من تأصيل لمفاهيم النكوص والتقوقع على الذات ورفض الحداثة باسم الدفاع عن الامة وهويتها. لقد انتجت هذه المرحلة ارباكا حقيقيا لمشروع التنوير والتحديث ترجمته حالة من البطالة الفكرية التي ضمرت فيها النقاشات الكبرى لفائدة انكباب مبرر ومفهوم على هموم التنمية في مراهنة كلية على الاقتصاد وفاعليه من التكنوقراط. تراجع حضور النخب وضمرت الحياة الثقافية ونقاشاتها الكبرى لفائدة واقع جديد مركب فتح الابواب امام مصدر تأثير واحد حافظ على نسقية اشتغال مرتفعة هو الفضائيات فتحولت قناة مثل «الجزيرة» الى مصدر الهام كفضاء واسع لنقاش نخبوي معروض جماهيريا على الطريق العام وفي مخادعنا الحميمية وهذه هي الخطورة الكبرى التي لم ننتبه اليها بتطوير اعلامنا الوطني الذي ظل للأسف خارج دائرة هذه الرهانات الرئيسية ومن ابرزها خوض سؤال الهوية بالدقة اللازمة للاجابة عن مطلب صورة الانسان الذي نريد!! للأسف لازال منّا منْ يعتقد في دور ساذج للاعلام مندرج ضمن رؤية ما يريده الجمهور وهي رؤية احتقارية لهذا الجمهور الذي لا يرى فيه البعض غير عقول كسولة تقتصر رغبتها على الامتاع والمؤانسة دون ان ينتبه الى قوة «التحيّل الجمعي» التي تختزتها الشخصية الاساسية التونسية حين تقنعك انها وفيّة لاعلامها الوطني في المتابعة والمشاهدة ولكنها تشك بصفة مرتفعة في مصداقيته ولا تثق فيه للأسف!!! موضوع الحجاب الآن وهنا هو احالة مباشرة لسؤال الهوية الذي لا يمكن في تقديري ان تجيب عنه الرقابة الامنية او الادارية بل توسيع دائرة النقاش والجدل وتشريك النخب الصامتة التي انسحبت من فضاء النقاش العمومي وانكفأت على عالمها الاتصالي الخاص، انه يتم بالانتباه الى ان رفضنا للحجاب هو في الحقيقة رفضنا لخطاب الحجاب الملخّص لنموذج خطاب مخاتل يبدء بحجاب المرأة كقضية حريات فردية لينتهي الى نسف كل مكاسبنا التحديثية باسم ذات البكائية المنافقة اذ لا بأس ان يتزوّج الرجل منا زوجة ثانية وثالثة أليس خيار الزواج ايضا حرية فردية؟! لا بأس ان نمنع الاختلاط في المدارس والجامعات والمواقع العمومية اذ علاوة على البعد الديني للمسألة لا نستطيع ان نجبر فتاة مؤمنة او رجلا مؤمنا على الاختلاط ونمس بالتالي من الحرية الفردية للأشخاص في اختيار جغرافية تموقعهم!!! ثم لماذا تمسّوا من حرياتنا الفردية في اختيار تطبيق الشريعة برجم الزاني في الساحات العمومية واقامة مواكب الشنق العمومي للقتلة وقطع الرؤوس على الملأ وقطع الايادي تطبيقا لمقتضيات الشرع وسيرة السلف!! أليس ذلك جزء من خطاب التأسّي الذي يمارسه نفاقا بعض الديموقراطيين الجدد المتمسّحين على اعتاب المشروع السلفي تزلّفا وانتهارية باسم معركة الحريات الفردية؟ اعتقد ان التراجع امام خطاب الحجاب بما فيه عبر الدعوة الى بديل «السفساري» او غير ذلك (رغم اعتزازنا ب«السفساري»« كجزء من تراثنا التقليدي لكن مع قناعتنا انه لا ينسجم مع مقتضيات الحياة العصرية لامرأة تطمح للمشاركة في الحياة العامة عملا وتعليما) يمثل انتكاسة في حق مكاسب التحديث التي حققها النظام الجمهوري لفائدة المجتمع بفضل تضحيات رجال شجعان دفعوا من حياتهم وكرامتهم ثمن الاصلاح الشجاع، تلخصها سيرة الطاهر الحداد الذي اطرد من عمله وطورد في الشوارع وضُرب في المقاهي ومُنع كتابه لانه غامر بالدعوة الى ولوج العصر من باب الحقوق والمواطنة والمساواة. من هذا الباب بالاساس، باب المدنية والمواطنة والحقوق والقانون والاقناع والجدل والنقاش تكون المقاربة المتوازنة لقضية الحجاب الآن وهنا أما التشنّج وما قد يصاحبه من تجاوزات حين تقتصر المقاربة على الادوار الامنية والادارية فانها لن تخلق سوى ضحايا يتم اهداءهم لرصيد التيار الاصولي المهزوم فاذا بنا عبر بعض الاخطاء نُعيد له الروح وننعشه!!!