وهذا معناه أنّ الألم من تمرّد الشاهد كان شديد الوقع على الباجي خاصة أنّه جرف معه في تمرّده هذا الرفيق الشيخ وحزبه النهضة.وهذا الألم الممزوج بالندم قد كان واضحا من خلال ملامح الباجي وكلامه في حواره التلفزي الأخير بعد أن ضيّع فرصة إسقاط الحكومة عندما كانت كلّ الأوراق بين يديه بسبب تردّده وهذا التردد ليس من شيم الحكّام الذين هم في سنّ الباجي الذي هو من طينة الحبيب بورقيبة كما يشاع بيننا جميعا لأنّ الحزم وعدم التردّد كان من خصال بورقيبة بدون منازع. وتاريخه يزخر بالأمثلة التي تدلّ على عزمه على صعاب الأمور بدون حسابات ممّا جعله ينتصر في كلّ المعارك التي خاضها سواء مع الاستعمار أو مع الذين تمرّدوا عليه بعد الاستقلال. و"الغُرْزة" الثالثة التي لم يحسن الباجي والنداء قراءتها في وقتها ولم يُبْديا منها أي موقف هي قرار مجلس النوّاب من هيئة الحقيقة والكرامة. فبعد أن راسلتْ رئاسة الحكومة الهيئة(بن غربيّة المكلف بهذا الملفّ) تُعْلمها بقرار مجلس النواب وتطلب منها الاستعداد لتطبيق هذا القرار وإنهاء مهامها مع نهاية شهر ماي.ثمّ -بقدرة قادر- يصدر -عن هيئة الحقيقة والكرامة ووزارة حقوق الإنسان والهيئات الدستوريّة أي وزارة بن غربيّة- بيان هو بمثابة انقلاب على قرار مجلس النوّاب وعلى المراسلة التي بعثت بها الحكومة للهيئة لإنهاء مهامها في موفّى شهر ماي. فهو إذن انقلاب الحكومة على نفسها. وبينما كان كلّ المهتمين بالشأن السياسي يترقّبون إجابة عن هذا الانقلاب الذي لم يكن له مبرّر واضح وأن تكون الإجابة سريعة حتّى لا يقعوا في تأويلات لأنّ هذا البيان المشترك يأتي في ظرف يُتَوقّعُ معه تغيّرات في وزارة يوسف الشّاهد حتّى لا نقول تغيّر كلّ الوزارة بمن في ذلك رئيسها. وقد سارع بن غربيّة في يوم الانقلاب بالإجابة في «ميدي شو» عن طريق الهاتف. وقد استمعتُ إليه وأنا أتحدّى أيّا كان يدّعي أنّه فهم شيئا من مداخلة بن غربيّة. فهو لم يجب عن سؤال دقيق طرحه عليه بوبكر عكاشة هل ستُنهي هيئة الحقيقة والكرامة عملها مع نهاية شهر ماي الحالي ؟ ودخل بن غربيّة في دوّامة من التفسيرات تدلّ بوضوح على أنّ له ما يخفيه وحاول التلاعب ب»بوكّر عكاشة».ومن سوء حظّ بن غربيّة أنّ مراوغة بوبكّر عكاشة لم تكن بالأمر الهيّن. فقد أفحمه عندما وجّه إليه سؤالا مضبوطا وبسيطا. وهو:» لماذا لم يُحَدَّدْ تاريخ تسليم الهيئة مهامها في هذا البيان المشترك؟:» فأجاب بن غربيّة « التاريخ موجود في مراسلة الحكومة الأولى». فسبحان الله قد صعبت إعادة تاريخ وجد في وثيقة من المفروض أنها نسخة بالبيان المشترك وهل كان من الصعب إعادة التنصيص على هذا التاريخ في محضر الجلسة إذا كانت هنالك نيّة تطبيق قرار مجلس النوّاب ؟ فأين كان النداء وقتها؟ وما هو موقفه؟ فكلّ الدلائل كانت تدلّ على أنّ حكومة الشاهد ستضع قرار مجلس النوّاب حول هيئة الحقيقة والكرامة في خبر كان .وقد طبخ المحضر الذي وقّعته الحكومة مع هيئة بن سدرين عندما كان الشاهد يعدّ للظهور في الوطنيّة 1 بذلك الخطاب الذي تزامن مع رفض النهضة إنهاء مهامه من رئاسة الحكومة .حيث أنّ النهضة قد دافعتْ عن التمديد لهيئة «تحريف الحقيقة ودوس الكرامة» دفاعا مستميتا. وفشلتْ في ذلك. وقد غادر نوّابهم الجلسة بعد التصويت على إنهاء مهام الهيئة في آخر ماي غاضبين. وقد اعتبرتْ النهضة هذا الفشل مضرّا بمصالحها العاجلة والآجلة. إذ هذه الهيئة هي وسيلة من الوسائل التي كانت في يدها ولها فيها كثير من المآرب منها تبيّض الإخوان بما لرئيستها بن سدرين من علاقات خارجيّة بَنَتْها على حساب المصلحة الوطنيّة . فجاء الشاهد ودائما عن طريق بن غربيّة «ابن النهضة» ليضمّد هذا الجرح. ويرجع الكرة الى النهضة وذلك بالمحضر الذي ذكرناه والذي وقّعه بن غربيّة مع» بن سدرين». وهو إعلان واضح والتزام من الحكومة بعدم تطبيق قرار مجلس النواب. وقد ظهر في ما بعد أنّ هذه الهديّة التي قدّمها الشاهد للنهضة ستكون من بين العوامل الهامة التي جعلت النهضة ترفض بوضوح الفصل ال64 من وثيقة قرطاج 2. وتلوي العصا في يد شريكها في الحكم.أمّا ادّعاؤها الواهي أنّها مع استقرار الحكومة لما فيه من مصلحة على التنميّة فهو مغالطة نهضويّة كبرى وإلّا كيف لحكومة معزولة عن أغلب الأحزاب التي ساندتها في وثيقة قرطاج 1 أي حكومة وحدة وطنيّة وخاصة أهمّ منظّمة اجتماعيّة لا استقرار في تونس بدونها الاتّحاد العام التونسي للشغل أن تضمن التنمية والاستقرار؟ وحتّى أُسَفِّهَ نهائيّا ادّعاء النهضة وقوفها إلى جانب الشاهد رغبة منها في الاستقرار أرجعها إلى ما جاء على لسان الدكتور توفيق بكّار في حواره مع "الشروق" فقد قال «...ونحن نعتقد أنّ نجاح عمليّة الإنقاذ سيُحَدَّدُ من خلال قدرة البلاد على ضخّ منسوب من الثقة وإكْساب البرامج المصداقيّة اللازمة... فهل الشاهد وأعضاء حكومته المعزولة من النداء والاتّحاد العام التونسي للشغل وغيره من المنظّمات الأخرى قادرون على ضخّ هذه الثقة المطلوبة للإنقاذ ؟ إذن تفسير موقف النهضة لا يتطلّب عبقريّة خاصة. فرفض النهضة الفصل ال64 هو من باب ما جزاء اﻹحسان إﻻ اﻹحسان بين النهضة والشاهد وهيئة الحقيقة والكرامة. وقد كان زيتون في إجابته عن هذا الموضوع واضحا وضوح الشمس. إذ قال :»ليس هنالك استقرار حكومي. بل هنالك استقرار سياسي». وأنا أضيف الى مقولته هذه أنّ الاستقرار السياسي مفقود بوجود النداء واتّحاد الشغل المطالبين بإنهاء مهام حكومة الشاهد . كما أنّ للنهضة من قرارها مساندة الشاهد مآرب أخرى كعادة الإخوان الذين يعطون باليسار ما يسترجعون أضعافه باليمين. وذلك باستعمال الحيل الإخوانيّة التي هي من جملة أدبيات حركة الإخوان. ولعلّ المثال الصارخ على توخّي النهضة هذه الحيلة الإخوانيّة هو ما فعلته مع الباجي قائد السبسي الذي بيّضها في أكبر المحافل الدوليّة وأخرجها من بوتقة المنظّمات الدينيّة الإرهابيّة. وشهد أنّ حركة النهضة التونسيّة ليست كبقيّة المنظّمات الدينيّة. فهي تؤمن بالحداثة والديمقراطيّة رغم قناعته بأنّها لم تصل بعد الى هذا المستوى –سامحه الله – فقد كذب (جهار بهار) وقال لنا إنّه كان يفكّر في مصلحة تونس التي اقتضتْ هذا التفاؤل منه. لكن هذه الحركة -بِحِسِّها الإخواني- تلتفّ عليه في أوّل مناسبة. وتعمل على عزله في قصره بصلوحياته المحدودة بعد أن تكفّل «ابنه البار» -الذي عوّض الصيد»-بتنسيق مع بن غربيّة بتشتيت حزب»النداء» والسطو على الكتلة النيابيّة. فإذا كان هذا جزاء الباجي من النهضة الذي أنقضها عندما كانت ستواجه مصيرا مظلما رغم دهائه وتجربته فماذا سيكون مصير الشاهد مع النهضة هذا الطفل الغرّ الذي لا يعرف من السياسة إلّا أنّ الباجي «بن عَمِيسْ» نصّبه رئيسا للحكومة ظنّا منه أنّه سيطمئنّ على الحكم بين الأيدي التي يريدها. فكان له «يوسف» عدوّا وحزنا خاصة أنّ يوسف هذا من سلالة تلك المرأة المناضلة التي لم يكن لها من النضال إلّا تكريم بورقيبة لها وتقديمها لأهمّ المناصب السياسيّة النسائيّة. لكن تنكّرتْ له وحاربته باسم الديمقراطيّة. وكانت رأس الحربة في تلك المعركة. إذ استطاعتْ بالمناصب التي مكّنها منها بورقيبة أن تتعرّف على كلّ أصناف النساء من الشمال الى الجنوب. وظنّتْ مع جماعتها بمن فيهم السبسي أنّ هذا كان كافيا لزعزعة بورقيبة في معركة ظاهرها بحث عن الديمقراطيّة وباطنها محاولة «جهويّة» لتغيّر مركز الحكم من جهة الى أخرى. لكن فشلتْ هذه المرأة وجماعتها. وأنا اعتبر أحمد المستيري هو الواجهة لمجموعة أساسها هذه المرأة التي مكّنها بورقيبة من مكانة فاعلة في المجتمع التونس الناهض. لكن اصطدمتْ محاولاتهم بصخرة بورقيبة الصمّاء. فهل ما يقوم به الشاهد اليوم مع الباجي هو من باب التاريخ يعيد نفسه ولو مع الأحفاد مع فارق صغير وهو أنّ تحرّك جماعة المستيري كان لأسباب «جهويّة». أمّا تحرّك الحفيد اليوم فهو من باب «ترك ضدّ عجم»وعلى الشعب التونسي أن لا ينخرط في هذه اللعبة. ومن لا يفهم هذا عليه بالرجوع الى التاريخ . إذا كان هذا ما وقع بين الباجي والشاهد رغم روابط القربى التي تجمع بينهما ورغم أنّ الباجي صاحب النعمة الوارفة على الشاهد فما عسى أن يقع بين الشاهد والنهضة ذات التوجّه الإخواني الثابت وهي لم تتخلّ عنه. وسوف لن تتخلّى عنه مهما مَوَّهَتْ على التونسيّن وغيرهم من الذين يتابعون تحرّكاتها. أي هل أنّ النهضة ستحاول أن تأخذ باليمين(حلالا) ما قدّمته للشاهد باليسار(مكروها)؟ هذا موضوع يطول الحديث فيه وصورته لم تكتمل بعد ليكون الحكم فيه نهائيا. لكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه خاصة أنّ بوادر استخلاص النهضة لديونها من الشاهد بدأت تظهر وإلّا بماذا نفسّر شرط بقاء الشاهد على رأس الحكومة هو عدم ترشحه للرئاسيّة. فهل هو دليل على سذاجة النهضة أو على دهائها؟. سوف لن أذهب بعيدا إذ أطلب من القارئ الكريم أن يرجع معي الى جريدة "الشروق" ليوم الأربعاء 5سبتمبر 2018 حيث جاء خبر قصير تحت عنوان «قريبا يحسم الشاهد ما يلي»علمت "الشروق" أنّ رئيس الحكومة سيقدّم فور عودته من الصين موقفه بخصوص الأزمة السياسيّة والدعوات الى تغيّر الحكومة ورجّحت مصادر إعلان الشاهد عدم ترشّحه لاستحقاقات2019. ويذكر أنّ حركة النهضة خيّرتْ رئيس الحكومة بين التعهّد لعدم الترشّح للانتخابات والبقاء على رأس الحكومة أو الاستقالة وممارسة الحقّ المذكور" . هذا خبر هام جدّا والمصادر التي أعلمت بهذا الخبر عليمة فعلا وليس من باب رمي الخبر تحت عنوان مصادر عليمة. وهو مُخْتلق لجسّ النبض أو الإرباك لأنّ المصدر الذي أعلم بأنّ الشاهد سوف يعلن عن عدم ترشّحه للاستحقاقات المقبلة ويقصد بها الرئاسيّة لا يمكن أن يكون إلّا قريبا جدّا من الشاهد ولا بدّ أن يكون قد نسّق مع الشاهد لتمرير هذا الخبر ولا بدّ أن يكون من الفريق الذي يحوم حول الشاهد ومن الذين يَسْتأنس اليوم الشاهد بآرائهم حتّى لا يكون هذا مجرّد استنتاج لا خبر من مصادر مطّلعة فلا تنقصه اليوم إلّا الأدلّة والحجج. وهذا ما سأحاول تبيانه. لقد مرت على رجوع الشاهد من الصين أيام ولم يصدر عنه أي موقف مما اشترطته عليه النهضة منذ وقوفها معه ضدّ الفصل ال64. فما هو السبب وما هي التطوّرات الجديدة في لعبة «الفار والقطوس « بين النهضة والشاهد؟ سآخذكم لتوضيح هذا الموضوع ولأهّم الأحداث التي شهدتها الساحة السياسيّة منذ رجوع الشاهد من الصين. لكن قبل هذا أذكّر القارئ بما لم يخف على كلّ التونسيّن. وهو أنّ الباجي وجد نفسه في وضع لا حول له فيه ولا قوّة أمام الصلاحيات التي منحها له الدستور. فبعد تقليب الموضوع من كلّ جوانبه والقيام بكلّ الحسابات شعر بعجزه عن إزاحة هذا «القريب» الذي كان في يوم من الأيام قد سحب اسمه من تحت الطاولة. وفاجأ به كلّ أعضاء وثيقة قرطاج1 الذين كانوا قد استعدّوا لتقديم مقترحاتهم لرئاسة الحكومة. وقال لهم هذا هو القادر على هذه المهمّة. وأنا الضامن في ذلك. « فوضع العاجز الذي ظهر به الباجي هو الذي سيتحكّم في ما سيأتي من الأحداث. ولعلّه السبب غير المباشر الذي جعل الشاهد لا يجيب النهضة عن مقترحها أو إجابتها بأسلوب آخر وهو تغيّر خطّة تحرّكه.