يعدّ القضاء من أهم الوظائف ومن أعلى المراتب في الإسلام مهمَته الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتنازع وقطعا للظلم والعداء ومن ثمّ ربى الإسلام في القضاة ضرورة مراقبة الله تعالى في كل الأفعال والأقوال لأن الابتعاد عن الحق في إنزال الأحكام القضائية جريمة في حق المتخاصمين وابتعاد عن نهج الله السوي .قال الله تعالى:( إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(النحل:90). كما حذّر كل من يتولى القضاء أن يحيف عن الحق أو يبتعد عن الصواب فقال رسول الله: (الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ لا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ)الترمذي. كما حرص الإسلام على أن يراعى في اختيار القضاة الصفات التي تحقق العدالة والدفاع عن الحقوق من العلم والتقوى والعدل والعفَّة والنزاهة . وقد كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضع شروطا لمن يتولى القضاء منها أنه ينبغي على القاضي أن يتصف بثلاث خصال: هي ألا يصانع ولا يضارِع(بمعنى يخضع ويذلّ) ولا يتَّبع المطامع وكان يسدي لقضاته على الأقاليم إرشاداته المهمة التي تعتبر من أولى القواعد العامة التي سارت مؤسسة القضاء في الحضارة الإسلامية على نهجها ومنها تلك الرسالة الشهيرة التي بعث بها إلى أبي موسى الأشعري لمّا ولاه قاضيا على الكوفة والبصرة لما له من معرفة وخبرة بعلم القضاء وقواعده وضبطه ولما اشتهر عنه من استقامة وحسن خلق وقد أمده بتوجيهات وأوامر سامية عليّة وردت في هذه الرسالة: ( إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك . البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرّم حلالا. ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم لا يبطله شئ ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل .الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فمن أحضر بينة أخذت له لحقه واستحلل القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى. والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه بشهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات. وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام). فهذه الرسالة يمكن اعتبارها مدونة شاملة وجامعة لما يجب عليه أن يكون القضاء والقضاة فهي رسالة عظيمة الفائدة تحوي ما تشتت من أحكام القضاء وتجمع ما تفرق من أسس التنظيم والإدارة للقضاء وهي دستور قويم في نظام القضاء والتقاضي وسجل حافل جامع لكثير من شؤونه ومسائله جمعت في كلمات قليلة موزونة تكاد أن تكون قطعة أدبية تحمل عناصر البلاغة والإيضاح. فالقاضي يوجب عليه الدين أن يعدل في أحكامه. وعدله معناه اتباع الحق وأن لا يصده عن الحكم بالعدل رابطة قرابة من نسب أو صهر أو عداوة بينه وبين المتقاضين تطبيقا لقوله تعالى (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)( المائدة:8) بل لا يخيفه غضب ولي الأمر أو صاحب جاه وقوة في إظهار الحق . قال عمر بن الخطاب ( إن أضعفكم عندي قوي حتى آخذ له بحقه وأقواكم عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق ) فالقضاء العادل سبب الأمن وسبيل لنمو ثروة البلاد وازدهار اقتصادها لأن القاضي إذا كان عادلا ونزيها اطمأن الناس في نفوسهم وعلى ثرواتهم وأعراضهم وإذا ما اطمئن الفرد على حقوقه ومكاسبه في الحياة زاد نشاطا وثقة في المستقبل.