في منتصف القرن الثاني كانت هذه البلاد الافريقية مأهولة بعدد كثير من اصحاب الامام مالك بن انس الذين درجوا على فقهه وكانوا مجتهدين مقيدين على طريقته وهم الذين نسميهم اهل التفريع في مذهبه . ونقتصر من هؤلاء الذين عمروا البلاد الافريقية ، واقاموا عماد الفقه فيها من اصحاب مالك بن انس على اثنين برز بهما مجد المدينتين الخالدتين : مدينة القيروان ومدينة تونس ، وهما الامام القاضي أسد بن الفرات في القيروان والامام علي بن زياد في مدينة تونس . وعلى ما يعتبر للمركز المصري بالنسبة للمذهب المالكي من اهمية باعتبار كونه الذي اوى اليه العدد الاكثر والاهم قيمة من اصحاب مالك بن انس وما للمركز المدني من شأن ايضا باعتبار كونه المركز الاصلي الذي كان منه الانتشار فان هذا المركز الافريقي الذي يمثل المحور الجامع بين القيروانوتونس انما اعتبر عماد المذهب المالكي نظرا الى ان المذهب المالكي وان كان مدني النشأة مصري الانتشار الا انه قد اصبح باهمية هذا المركز الافريقي مذهبا افريقيا باعتبار التدوين وباعتبار التطبيق . وهذا المعنى الذي جعل المذهب المالكي بعد كونه مدنيا بالنشأة افريقيا بالتدوين والتطبيق هو الذي يعطي لمدينة القيروان المنة التي قلدتها القيروان لاعناق المسلمين اجمعين لا لخصوص اتباع المذهب المالكي لان التوزع بين اتباع المذاهب انما هو امر صوري او اعتباري ولكن الحقيقة ان كل امام من ايمة الهدى المسلمين هو امام لجميع المسلمين وكل مذهب سواء انتسب اليه الفرد بالاتباع ام لم ينتسب اليه هو مذهب اسلامي معتبر عنده اعتبار الحق المشاع والتقديس المشترك باعتبار انه مظهر من مظاهر الاجتهاد في الدين والاقباس من روح القران وروح السنة . فاذا كانت القيروان باعتبار كونها دار فقه ذات منة قلدتها مدينة القيروان لاعناق المسلمين اجمعين سواء في من اتبع المذهب المالكي ومن اتبع غيره من مذاهب الهدى فان هذا الامام العظيم يعتبر هو الاصل فيما فازت به مدينة القيروان من المنة العظيمة التي تقلدتها رقاب المسلمين لمدينة القيروان وذلك بالاثر الخالد الذي تركه الامام سحنون من بعده والذي بدا فيه معنى التدوين والتطبيق للمذهب المالكي الذي اختصت به مدينة القيروان وذلك بتأليفه كتاب « المدونة « . لسنا قاصدين من هذه الكلمة الوجيزة ان نترجم للامام سحنون ولا ان نعرف به فهو اعرف من ان يعرف به . ومجال ترجمته مجال واسع قد خصه من قبلنا بتآليف مستقلة . فقد كتب ابو العرب التميمي كتابا خاصا في ترجمة الامام سحنون . وكتب محمد بن الحارث الخشني كتابا خاصا ايضا في ترجمة الامام سحنون ، زيادة على التراجم الحافلة التي وردت في الكتب الجامعة للتراجم . واهمها الترجمة الطويلة الجليلة التي ترجم بها الامام القاضي عياض في « المدارك « للامام سحنون والتي تعتبر المادة الاولى حيث ان جميع كتب التراجم الذين ذكروا سحنونا بعد ذلك وكتب الطبقات هي على ما اورده القاضي عياض في المدارك ترجمة الامام سحنون . فلسنا محاولين ان نفصل ترجمته ولا ان نلم بها الماما ولكننا نحاول ان نلفت النظر في ايجاز الى اهمية العمل الفقهي الذي قام به الامام سحنون والاثر الخالد الذي رفع به اسمه العظيم ورفع به اسم هذه المدينة التي اعتزت به وبأمثاله وذلك بوضعه « المدونة « . فان الامام سحنونا بالقيروان والمذهب المالكي ليس غريبا عنها ولا اجنبيا فيها لما بينا من ان كثرة من اصحاب مالك ذكر القاضي عياض انها تتجاوز ثلاثين قد استقرت في البلاد الافريقية قبل نشأة الامام سحنون . ومع ذلك فان حياة الامام سحنون واثره العلمي والفقهي قد اصبح مبدأ لحياة المذهب المالكي في البلاد الافريقية او مبدأ لحياة المذهب المالكي بصورة عامة ، حتى انه غطى على جميع الاثار التي كانت قبلة ومحاها ونسخها كما ينسخ آية الليل . يتبع