النسيان حسنة وعطية من عطاءات الطبيعة للإنسانية، كأفراد.. ولكن هذا النسيان حين يتجاوز المقدار المناسب، يصبح من الخسائر الكبرى للشعوب وطمسا للتاريخ.. إن العبث بجثة جمال الخاشقجي السعودي الجنسية والأمريكي الإقامة.. ذكرني بما حدث من جرائم أخرى شبيهة بها، من بينها اغتيال الزعيم التونسي صالح بن يوسف من قبل النظام البورقيبي سنة 1964.. وكذلك ما فعله نظام الحسن الثاني بالمعارض المغربي «المهدي بن بركة» سنة 1966.. وكذلك ما فعله «القذافي» في كل من عارضه وأشهرهم الوحيشي ومن معه. تلك الجرائم البشعة، جميعها تمّ بالتصفية الجسدية.. ولا ننكر أن أصوات الأحزاب السياسية والنقابات وبعض الأحرار استنكرت هذه الجرائم ولكن هذه الأصوات ذهبت أدراج الرياح في تلك السنوات. وانتهت بموجة من الكآبة والحزن الدفين خيّم على عائلات الضحايا.. وظن السفّاحون أن المسألة انتهت، رغم أن الإشاعات ظلّت تنشط خلال فترة غير قصيرة، تنسج الافتراضات والتصورات التي وقع بها التخلص من الجثّة. عدت إلى هذه الوقائع المأساوية من تاريخنا الدموي، لأقف قليلا عندما يحدث هذه الأيام من تشهير غير بريء بالنظام السعودي، حول هذه الجريمة.. والحال أن المواطن العادي في كل مكان أدرك الغاية من هذا التشهير المبالغ فيه الذي هو لابتزاز السعودية لتدفع أكثر لإخماد النار أو لتخفيض درجة الحرارة على الأقل. لست ضدّ هذه الحملة الاستنكارية، ولكنني أريد أن أقول لو وقع مثلها في التعامل مع الجرائم السابقة ومعاقبة الفاعلين قد يكون ذلك رادعا للأنظمة العربية التي تمارس هذه الأساليب الشنيعة. ولكن الذي حدث في الماضي أن الحسن الثاني ساوم ديغول الذي كان موقفه متصلّبا، ويهدّده بالارتماء في الأحضان الأمريكية.. وتحويل منطقة شمال إفريقيا إلى منطقة أمريكية. عندئذ وجدت الحكومة الفرنسية مخرجا قانونيا من الأزمة بين الحكومتين.. إذ حكمت العدالة الفرنسية بعدم صلاحيتها للنظر في مسؤولية المتهمين المغاربة، وعلى رأسهم السفاح الجنرال أوفقير، وذلك عملا بالاتفاقيات القضائية المعقودة بين المغرب وفرنسا.. لست أدري إن كانت هذه الدروس القديمة إلى حدّ ما، والدروس الساخنة هذه الأيام، كافية لأن نأخذ منها العبرة، أم يلزمنا المزيد من المصائب لنتّعظ ونستقيم... قلت: ظنّ السفّاحون أن المسألة انتهت.. وقلت إن النسيان حين يتجاوز المقدار المناسب يصبح طمسا للتاريخ... ولكن للتاريخ وجهان، المزيف الذي يأتي عادة من يكشفه، فينفضح أما الوجه الثاني الحقيقي فهو الذي يبقى مهما طال الزمن.. وأعطي مثالا صارخا على ذلك.. إن أبا العبّاس السفاح حين أقام دولته أعقاب الخلفاء الأمويين أخرج جثث بعضهم من القبور.وظل هو أو من تبعه يضربهم بالسوط والجثث المتحللة تتناثر أجزاؤها، والفاعل في هستيريا من الانتقام.و لا شكّ أنها صورة من أبشع الصور وحشية. وقد قع ذلك منذ نحو 13 قرنا. ولكنها مسجلة في كتب التاريخ.و تشهد على إدانتهم حتى هذ اليوم.وسوف تبقى تدينهم أبد الدهر...