أصبح الاعلام ومع تطور وسائله واختلافها من مكتوب ومرئي وسمعي يمثل قوّة وقيل سلطة يستعملها رجل السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع للوصول الى أهدلافه. وقد لعب الاعلام التونسي وخاصة المكتوب منه قبل الاستقلال دورا أساسيا في النضال الثقافي للدفاع عن الهوية الوطنية وكذلك في النضال السياسي لتحريك المشاعر وتجذير الوعي الوطني لدى الخاصة والعامة للتعبئة والاستعداد لمقاومة المستعمر وكانت الصحيفة في ذلك العهد الوسيلة المثلى للتواصل بين النخب الفكرية والقيادات السياسية من جهة والجماهير الشعبية من جهة أخرى. وكانت التجربة مع جريدة «الحاضرة» في 1888 بإدارة علي بوشوشة ومن حوله مجموعة نيّرة أمثال البشير صفر وسالم بوحاجب ومحمّد السنوسي، ثم جريدة «الزهرة» لصاحبها الصنادلي ولقيت جريدة «الصّواب» لصاحبها محمد الجعائبي رواجا كبيرا لتكون لسان النهضة الثقافية والاجتماعية والمعبّرة عن المطالب الوطنية، ومع بروز حركة الشباب التونسي صدرت جريدة «التونسي «le Tunisien» سنة 1906 بإدارة محمد باش حامبة وجماعته. وخلال سنة 1933 ومع رجوع مجموعة من الشبان الى أرض الوطن بعد إتمام الدراسة بالجامعات الأوروبية أصدر هؤلاء جريدة «العمل التونسي» «L'action Tunisien» بإدارة الزعيم الحبيب بورقيبة وبمشاركة الطاهر صفر ومحمود الماطري والبحري قيقة ومحمد بورقيبة وأصبحت الجريدة الرئيسية المعبّرة عن مطالب التونسيين وتطلعاتهم والناطقة باسم الحزب الحر الدستوري ولعبت دورا كبيرا في تأطير الجماهير وبث الوعي بالمسائل التي تهدّد البلاد والعباد. من الصحف التي قامت بدور وطني كبير خاصة خلال بداية الخمسينات جريدة «الصباح» لصاحبها المرحوم الحبيب شيخ روحه بمساهمة الهادي العبيدي والحبيب الشطي. ومع حصول البلاد على استقلالها أخذ الاعلام السمعي مكانته بعد تونسة الإذاعة الوطنية وبعث فروع جهوية في صفاقس وغيرها ثم تدعم المشهد الاعلامي بإحداث التلفزة الوطنية. وتظافرت كل هذه الوسائل رغم قلة الامكانيات المادية والبشرية في خدمة متطلبات الدولة العصرية الناشئة بتوعية المواطنين بالمسائل الجوهرية وتوجيههم فكانت البرامج مدارس حقيقية دعّمت الاعتزاز بالانتماء للوطن والاجتهاد والعمل من أجل المصلحة العليا. ووفّق الاعلام في تلك الفترة في القيام بدوره السياسي والاجتماعي والثقافي الى الترفيه والتسلية الذكية والراقية. ويمكن ذكر بعض الأسماء التي تميّزت في الصحافة المكتوبة: الهادي العبيدي، الحبيب بولعراس، الحبيب الشطي، صلاح الدين بن حميدة، العربي عبد الرزاق، الحسين المغربي. وفي الإذاعة والتلفزة: محمد المحرزي، عبد العزيز الرياحي، خالد التلاتلي، بوراوي بن عبد العزيز، عبد العزيز العروي، عبد المجيد بن جدّو، نجوى إكرام، السيدة المحرزي، السيدة عليا، نجيب الخطاب، صالح جغام، رؤوف يعيش، الحبيب حريز، فرج شوشان. وبداية من التسعينات بدأت تظهر بعض الصحف الخاصة وبعضها صادر عن المعارضة ومنها صحف (دار الأنوار) للمرحوم صلاح الدين العامري ومنها جريدة «الشروق» الغرّاء و«الصريح» لصاحبها صالح الحاجة و«الرأي» بإدارة حسيب بن عمّار و«الشعب» لسان الاتحاد التونسي للشغل و«البيان» لسان اتحاد الصناعة والتجارة و«الموقف» بإدارة الأستاذ محمد نجيب الشابي و«الإعلان» و«الأخبار»... ورغم ما عرفته البلاد من أحداث وأجواء متوترة بداية من نهاية التسعينات فإن أغلب هذه الصحف حتى المعارضة منها للنظام كانت تقوم بدورها الاعلامي بكل وطنية وحرفية دون السقوط في الابتذال والمتاجرة الرّخيصة وحافظت على حدّ أدنى من المهنية والأخلاق الصحفية. بعد 14 جانفي 2011 عرف الميدان تسيّبا وانفلاتا كبيرا على إثر تزايد وتعدّد مختلف الوسائل الاعلامية الخاصة وكذلك باكتساح وسائل التواصل الاجتماعي الساحة الاعلامية والتي أصبح شعارها: حرّية الاعلام. وفي الحقيقة فإن أغلب هذه الوسائل مرتبة بصلة وثيقة بقوى سياسية أو اقتصادية وحتى جهات أجنبية تقوم بدعمها ماديا وأدبيا وتعمل تحت توجّهات وضغوطات معيّنةخدمة لأغراض محدّدة وقد استعملت في ذلك مجموعة من المتطفلين على الميدان الذي أصبح في متناول من هبّ ودبّ. وأصبحت برامجهم الاذاعية أو التلفزية عبارة عن حوارات أغلبها سياسي يتخلّله الاستفزاز والصياح والمشاجرات و«البوز» وحتي الكلام البذيء أحيانا بعيدا عن أخلاق المهنة ومبادئها. أما البرامج والمنوعات «الترفيهية» فإنها معارض للموضة والعراء ومحاولات للإضحاك والنكت الركيكة والبليدة وموجات ونوبات الضحك المتواصلة بدون سبب والتصفيق المجاني والصياح والمواقف والشماهد الرديئة والمخجلة والبعيدة عن عاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا، وبذلك ابتعدت هذه البرامج عن الإفادة والتسلية الذكية وانخرطت في الإسفاف والسخافة. ومردّ هذا التراجع في مستوى المادة الاعلامية التسابق الى محاولة تقليد وساذل إعلام الدول المتقدمة حيث تمّ نسخ بعض البرامج المعروفة في وسائل اعلامية أجنبية دون مراعاة للعادات والتقاليد والمستوى الثقافي والذهني وبالغت بعض هذه الوسائل في استبلاه القارئ أو السامع أو المشاهد بتقديم برامج يغلب عليها كما أشرنا سابقا «العنف الاعلامي» والدفاع عن منهج معيّن ومحاولات ظهور بعض الاعلاميين بمظهر الأبطال والثورجيين أو العلم أو في المقابل نجد المدافعين حتى على الفكر المتطرّف والسّلفي. ووجد هؤلاء مادة مرنة وطبيعة في بعض السياسيين أو المثقفين أو الفنانين ممّن يحبّون الظهور لتلميع صورهم لتغطية ضعفهم وفشلهم. تعرّضت لموضوع الاعلام في هذاالمقال على إثر انعقاد المنتدى العالمي الأول للصحافة بتونس، والسؤال الذي يتبادر الى الذهن لماذا انعقد هذا المنتدى بتونس؟ وفي هذا التاريخ بالذات؟ ولماذا هذا العدد الضخم من الضيوف؟ومن هي الأطراف الخفية في التنظيم؟ وما هي أهدافها؟ وحتى نتجاوز هذه الأسئلة نقوم بتقييم حصيلة هذا المنتدى العالمي حيث تمّ وعلى مدى ثلاثة أيام إجراء حوارات ونقاشات مطوّلة وتنظيم ورشات تدريب وتكوين مهنية حول تقنيات العمل الصحفي وأساليبه والتعرّف على ماعرفه من تغيّرات وتطور. ورغم أن الاعلام الوطني يشكو عديد المعثلات والنقائص وفي حاجة متأكدة الى مزيد من المراجعة وحاجة أغلب المشتغلين بالمهنة من تكثيف التكوين والاطلاع الواعي على التجارب في البلدان الأخرى والتخلص من كل المتطفلين والدخلين عن الميدان والانتهازيين سعيا الى تنقية الساحة من الذين أساؤوا للمهنة بسلوكهم المشين وضعف معلوماتهم المهين والمطلوب من هيئة السمعي والبصري (هايكا) القيامب دورها لحماية الميدان وتحدّ من الظواهر الخطيرة التي تهدّده. غير أن البيان الصادر عن هذا «المنتدى الضخم» وعوض أن يتعرّض الى كل ذهه المسائل اكتفى بالدفاع عن الصحافيين دون التمييز بين الغثّ والسّمين وعلى مبدإ انصر أخاك ظالما أو مظلوما وأظهر أصحاب المهنة كالمظلومين من الرزي العام وترك المجال مفتوحا لحرية الصحافة وهي العبارة التي يردّدها ويستعملها جانب هام من الاعلاميين والصحفايين لتمرير أفكارهم وغاياتهم وهي مرتبطة أيحانا بأغراض شخصية أو هي تعبّر عن توجهات قوى معينة داخلية أو خارجية فتتحول الرسالة الاعلامية النبيلة عن أهدافها الأصلية ومنها غرس الر وح الطونية واللحمة بين الفئات والأجيال والدفاع الواعي والجاد عن قضايا المواطن والوطن والقيم السامية وعوض ذلك تصبح وسيلة الى بثّ الفوضى والتسيّب وأداة طيّعة لخدمة أغراض شخصية أو استجابة لضغوطات جهات داخلية أو خارجية كما أسلفنا. إن تطور الصحافة لا يمكن أن تنظمه القوانين فقط بل هو إحساس داخلي يجب أن يتحلّى به كل مهني شريف ليقوم بدوره في ترشيد الرأي العام وبث الوعي الوطني والحضاري خدمة للعباد والبلاد وتحدّي كل الضغوطات والتحلّي بالشجاعة الكافية والكفاءة اللازمة لتبليغ الرسالة بكل موضوعية وشفافية ووطنية بعيدا عن السّعي المحموم للسّبق الاعلامي الرخيص و«البوز» اللاأخلاقي وبعيدا عن التعاون المشبوه مع أطراف نافذة سياسية كانت أو اقتصادية داخلية كانت أو خارجية وبذلك يقوم الاعلامي بدوره الإيجابي خاصة في مثل هذه الظروف العصيبة التي تمرّ بها البلاد. هذه بعض الأفكار والمقترحات المتواضعة من مواطن عادي ومستمع وقارئ ومشاهد لمختلف الوسائل الاعلامية.