بات الأمر واضحا الآن. فقد اختار معسكرا الأزمة الماثلة المضي قُدما نحو المواجهة. إذ لا شيء في الأفق يُوحي بمكانية ركون الفرقاء إلى التهدئة ونزع الأسلحة والمرور الى وضع السّلم. سيلٌ من الاتهامات والإدانات المتبادلة، بلغ عددٌ منها أروقة المحاكم والقضاء، بصنفيه المدني والعسكري، ومرور سريع إلى تنفيذ خططٍ هجوميّة في هذا الاتجاه أو ذاك. ومنها خطط هجوميّة فجئيّة، هي الآن عند أطرافها بمثابة جسّ النبض لمعركة أشدّ تؤكّد الكثير من المؤشرات أنّه لا مناص منها وأنّ العمل حثيث عليها في الكواليس، ترتيبا وإعداداً واختيارا للمكان والتوقيت الملائمين، على غرار ما حدث الخميس والجمعة المنقضيين في قطاعي توزيع المحروقات والنقل عبر القطارات. كلّ شيء أصبح خاضعا لمنطق المناورة ونهش الخصم في حركات أشبه ما تكون بعمليات الإحماء أو التسخين التي تسبقُ جلّ المنافسات الرياضيّة الساخنة. واقع الأزمة اشتدّ دونما شكّ. فالضغط الاجتماعي والاقتصادي والمالي ثقيل جدا. وهناك حالة من الغضب والقلق تجتاحُ غالبيّة الأسر التونسيّة نتيجة واقع الفوضى وتفشي الجريمة وعودة المحاذير الإرهابيّة، ولكن أساسا نتيجة إحساس عام بدأ يكبُر لدى قطاعات شعبيّة واسعة بانخرام العمليّة السياسيّة الجارية في البلاد واندفاع الأحزاب ونواب الشعب والنخبة عموما وعدم مبالاة السلطات بالحالة المعيشيّة المترديّة على أكثر من صعيد. أشبه ما يكون بالحرب الباردة تجري حاليا بين مختلف الفرقاء، يُستباح فيها كلّ شيء، حتى احتياجات المواطنين الأساسيّة والمناخ الآمن المطمئن. والجميع يتحدّث اليوم عن هذا المستنقع الذي وقعت فيه النخبة السياسيّة، الحاكمة والمعارضة، مستنقع أفرغ الممارسة السياسيّة من الجديّة في التعاطي مع واقع صعب ومعقّد. وغيّب أو يكاد روح المسؤوليّة وتغليب المصلحة الوطنيّة العليا. وقد ألقى أداء مجلس النواب المُلغز بمناسبة مناقشة قانون المالية بظلال كثيفة على منسوب الخيبة والازدراء لدى التونسيّين. فقد ظهر النواب، ومن ورائهم أحزابهم وكتلهم البرلمانيّة، وهم منغمسون في تصفية الحسابات الضيّقة في ما بينهم وخدمة مصالح اللوبيات ورجال الأعمال، في تجاهل وتخلّ غريب عن مهامهم في تمثيل الشعب والدفاع عن استحقاقاته واحتياجاته وإيجاد حلول للمشاكل اليوميّة العويصة التي باتت السمة الغالبة في حياة التونسيّين اليوم. حرب الكواليس والغُرف المغلقة، مُخيفة، لأنّها لا تظهرُ الاّ النزر القليل من الأجندات والمخططات. فالمسكوت عنه لا يفتحُ إلاّ على سيناريوهات الصدام والمواجهة وهدف القضاء على الخصم مرّة واحدة. لقد أبانت الصراعات السياسية في تونس عن الكثير من الدسائس والمؤامرات والأكاذيب والإشاعات المغرضة والاتهامات الخطيرة جدا. فماذا عسى الأجندات المخفيّة أن تفعل في البلاد؟