تهلّ هذه الأيّام الذكرى الثامنة لحدث الثورة، وهي دونما شكّ ذكرى سنويّة تبقى فرصة لتقييم المنجز واستشراف ما يُمكن من المآلات. يكادُ يكون هناك إجماع لدى كبار المفكرين والمثقفين، في تونس والعالم، على أنّ ما جرى في بلادنا في الفترة من 17 ديسمبر 2010 الى 14 جانفي 2011، حدث غير مسبوق يرقى في أعلى التوصيفات أن يكون ثورة، بالمعنى التاريخي والحضاري، استطاعت أن تنقل التونسيّين من وضع إلى آخر مُغاير على أكثر من صعيد. وعلى الرغم، من التفسير المتشنّج الذي يقع فيه البعض، فإنّ الواقع يُثبت أنّ تونس قد أنجزت نقلة نوعيّة على مستوى المنطقة والإقليم، وكانت نموذجا ومثالا نادرا في إدارة الاختلافات العميقة والصراعات العنيفة التي أعقبت سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين وزوال حكم الحزب الواحد، حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي. استطاع التونسيّون، بفضل قدر كبير من الحكمة، على تخطّي ارتدادات شديدة لحدث الثورة، وراكموا رصيدا من قيمة التعايش المشترك وإجراء ما يلزم من حوار وتسويات لتجاوز ما يظهر بين الفينة والأخرى من تباين واختلاف في قراءة الوضع واستحقاقاته، وأبرزوا قدرات عجيبة في رفض الذهاب الى المجهول، جعلتهم محلّ إشادة دولية واسعة بلغت درجة منح المنظمات الوطنية التي رعت الحوار الوطني جائزة نوبل للسلام. ومكّن دستور جانفي 2014 من تحقيق تناغم كبير بين مختلف المقاربات، وكانت مختلف فصوله تعبيرات عن منطقة وسطى التقى فيها كل الفرقاء حول مبادئ كبرى ضمنت مكاسب سياسيّة وحقوقيّة هامّة، على رأسها حريّة التعبير، والتنظّم، وسائر الحقوق الفرديّة والجماعيّة، والإقرار الصريح بالتعدديّة الفكريّة ورسم طريق واضحة لانهاء معضلة السلطة بالمنافسة الانتخابية والتداول السلمي على السلطة. أشياء عظيمة حقّقها دستور الثورة، ومنها تغيير النظام السياسي بل قلبه رأسا على عقب، وتوسيع دائرة المشاركة في إدارة الشأن العام الى الديمقراطية المحليّة عوضا عن المركزيّة المشطّة التي سبّبت ما سبّبت من غياب للعدالة بين الجهات وواقع التهميش والنسيان الذي عاشته، ولا تزال، مناطق داخلية عديدة. وتلك هي ميزة الثورة التونسيّة، السلميّة وإجراء التسويات وبلوغ التفاهمات والتوافقات، في منطقة تلطّخت فيها مختلف أيادي الفرقاء في دول مماثلة بالدماء ومختلف مظاهر الفوضى والاحتراب الأهلي، وهذا هو المنجز التونسي الأهم، صراع الأفكار والبرامج بديلا لصراع الرشاشات والقنابل. ولا أحد يشكّك اليوم في قيمة ما تحقّق، وهو بحساب السياق الحضاري وتاريخ المجتمعات، شيء عظيم، جسّد على أرض الواقع طموحات أجيال متعاقبة من التونسيّين راكموا نضالات جسام من أجل الحريّة والدولة الديمقراطية، فتونس اليوم تتقدّم بخطى ثابتة، وإن كان فيها بعض البطء والتراخي، نحو التأسيس للجمهورية الثانية. تحقّق الكثير وهذا واقع، ولكن ما يزال الكثير من الاستحقاقات التي قامت من أجلها الثورة لم تتحقّق بل إنّ العديد من الإكراهات قد انضافت، ضغطا على المعيش اليومي للمواطنين وقدرتهم الشرائيّة، وايضا ضغطا على الموازنات المالية للدولة وقدراتها على الاستجابة للحاجيات الاجتماعية والاقتصادية والتنمويّة للبلاد. ثماني سنوات، فترة قصيرة في حياة الشعوب والأمم، ولكن في بلادنا أُنجز فيها الكثير، وما ينتظر هو تجاوز المطبّات الحاصلة بين الفينة الأخرى بروح المسؤولية الوطنية العالية، ودائما بمنهج التفاهمات الواسعة حتى تستقرّ الثورة إلى شاطئ الأمان الاقتصادي والاجتماعي. ما يُطرح على النخبة اليوم، شديد الأهميّة، عدم إضاعة المزيد من الوقت والالتفات السريع لحياة الناس والبحث عن حلول عاجلة لمشاغلهم ومشكلاتهم المتراكمة، بعيدا عن كلّ أصناف المكابرة والعناد ومحاولة الانفراد بالرأي، ومن ثم استكمال ما بقي من استحقاقات الثورة والتوجُّه بأمل وتفاؤل كبيرين الى المستقبل.