أقرّ بنفسه في آخر حديث تلفزي، أنّ الوضع صعب ودقيق، وما قدّمه من مؤشرات اقتصادية واجتماعية وغياب الدعم السياسي المأمول يدلّ بشكل واضح على حجم التحديات التي باتت تواجه يوسف الشاهد وحكومته. لذا لم يكن غريبا أن يتحدّث رئيس الحكومة عن انتظار تحسّن الأوضاع سنة 2020 معدّلا بذلك توقعات سابقة له بأن تكون سنة 2019 سنة الانفراج الحقيقي. لاعب رئيسي بصلاحيات تنفيذية واسعة، ولكن ... أصبح الشاهد دونما شكّ، منذ تعطّل مفاوضات وثيقة قرطاج 2، من بين اللاعبين السياسيّين الرئيسيّين بحكم موقعه في السلطة وبما منحهُ الدستور من صلاحيات تنفيذيّة واسعة، فهو الحاكم الفعلي للبلاد، ولكن برغم تلك الإمكانات يبدو الشاهد عاجزا أمام واقع عصيّ عن التحرّك في الاتجاه الإيجابي، وحالة القلق والحيرة التي تهزّ قطاعات واسعة من المجتمع تعكسُ تراجع الثقة في المستقبل وارتفاع منسوب الخوف من مآل العملية السياسية وفرص إنقاذ البلاد اقتصاديا واجتماعيا. بات واضحا اليوم أنّ الصلاحيات الدستوريّة لا تكفي وحدها لحلحلة الوضع وإيجاد الحلول للمشكلات والأزمات المتراكمة، بل إنّ المُصادقة البرلمانية على التحوير الوزاري الأخير لم تكن سوى عمليّة ربح وقت وتدوير للأزمة السياسيّة دون القدرة على إنهائها. هل أخطأ رئيس الحكومة في تموقعه الحالي بين شبه قطيعة مع نداء تونس وعلاقة متغيّرة مع رئيس الجمهورية، فيها نوع من التباعد وعدم الانسجام والتفاهم، وإكراهات مُعلنة ومُضمرة من حركة النهضة وحتى من قبل بعض الحلفاء الآخرين على غرار حركة مشروع تونس وحزب المبادرة؟ القراءة العميقة للمشهد الوطني تؤكّد استمرار الأزمة السياسية التي اندلعت منذ نهاية شهر ماي الماضي، بل هي ربّما ازدادت تعقيدا مع بوادر تراخٍ وتعطيل كثيرة، أهمّها عجز الحكومة عن تمرير أحد أبرز مشاريعها الإصلاحية الكبرى بعد إسقاط البرلمان لقانون التقاعد وإنقاذ الصناديق الاجتماعية وما يُواجه قانون المالية من عقبات وانتقادات واسعة، وضبابيّة المشهد البرلماني نفسه بعد غياب التوافقات حول مسائل على غاية من الأهميّة من قبيل إصلاح وضعيّة الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وتركيز المحكمة الدستوريّة وتعديل القانون الانتخابي. بتموقعه الجديد، فقد الشاهد سند حزبه، نداء تونس، والرئيس المؤسّس ورئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، وعلى الرغم من كسبه دعم كتلة برلمانية فإنّه ليس لدى رئيس الحكومة الى حدّ الآن الثقة في أن ينسلخ عن النداء أغلبيّة مريحة تضمنُ تأسيس حزب جديد قادر على أخذ مكانه سريعا في المشهد وكسب الرهان الانتخابي القادم، وإلاّ لكان أعلن عن ذلك دون تردّد أو تأخير. كماشة وهواجس وحسابات مختلفة في المقابل يرى كثيرون أنّ الشاهد وقع في كمّاشة حركة النهضة، ليس فقط فرضا للتوجهات الحكوميّة وقرارات إدارة الشأن العام بل أيضا في رسم استراتيجيات العمل المستقبلي المستقل، فقد باتت النهضة واضحة في التضييق على الشاهد من حيث تكرار تحذيرها من توظيف اجهزة الدولة ومؤسّساتها، ومنها رئاسة الحكومة، حزبيّا، مثلما ورد ذلك مُعادا مكررّا في صيغة موحية بالتأكيد الصارم في بياني مجلس الشورى نهاية الأسبوع المنقضي وبيان المكتب التنفيذي هذا الأربعاء، فالواضح أنّ النهضة تُمسك الشاهد بقوّة وحسابات الربح والخسارة الانتخابية، على وجه الخصوص، لن تسمح لها بتركه يتحرّك بحرّيّة وكيفما شاء. ليس للشاهد ثقة رئيس الجمهورية ونداء تونس، وهذا لا يحتاج الى تدليل، ولكن حلفاؤه أيضا متوجّسون متخوّفون، فمع ما للنهضة من محاذير واشتراطات، لا ينظر حزب المبادرة بعين الارتياح لمحاولة الشاهد استمالة القاعدة الدستوريّة، كما أنّ مشروع تونس ما يزال يُناكف حول التحالف مع النهضة، وعلى ما يراه مقرّبون من محسن مرزوق الامين العام لمشروع تونس فإنّه لا يُمكن بحال أن يتواصل ذلك التحالف ولا سبيل لأن يمتصّ مشروع الشاهد الجديد الوهج والامتداد الذي بات يُحظى به حزب مشروع تونس لدى قطاعات واسعة من المثقفين ومن الطبقة الوسطى ومن جهات فاعلة سياسيا على غرار الساحل وصفاقس ومن العائلة الدستوريّة أيضا. وفي الكواليس هناك حديث عن آمال تحدو مرجان ومرزوق للاستفادة من الديناميكيّة التي أحدثها الشاهد لتعزيز حظوظ حزبيهما مستقبلا، وهو ما يطرحُ على أرض الواقع منافسة حول من سيستفيد من الآخر، هل ستستفيد المبادرة أو المشروع من الشاهد أم أنّ هذا الأخير هو الذي سيكسب المعركة؟ الشاهد مُحاصرٌ من جهات عديدة، بين «دهاء الشيخين» وحسابات كمال مرجان ومن معه من الدساترة وطموح محسن مرزوق وشباب حزب المشروع، يُضاف إليها واقع اقتصادي واجتماعي صعب ومطلبيّة نقابيّة مُتصاعدة، وأكبر الرهانات التي تُواجه المستقبل السياسي للشاهد هو أن يكون مجرّد كبش فداء أو ضحيّة لغياب توافق الشيخين حول شخصه، وما تبع انفكاك توافق النداء / النهضة من اصطفافات محليّة وخارجيّة وطرح لعديد الملفات الحارقة، وما قد يلحق كلّ ذلك من اضطرابات وفوضى وضغوطات اجتماعية واقتصادية قاهرة، قد لا يعرفُ أحد الآن طبيعتها ولا المآل الذي قد تستقرّ إليه.