ساعات تفصلنا عن الاحتفال بالذكرى الثامنة لرحيل نظام بن علي وكما لا تقاس الساعات في حياة الأفراد والمجتمعات إلا إذا اقترنت بأحداث ووقائع وإنجازات كبرى فإن السنوات تخضع إلى نفس المنطق في العادة. ولكن حين تنظر إلى سيرورة التاريخ عند حصول المنعطفات الكبرى كالتي تعيشها بلادنا منذ 14جانفي 2011 فإن نسق التحولات يجب إن يكون سريعا حتى يكون بالإمكان تلافي التقصير الذي أدى، من بين ما أدّى إليه إلى انتهاء صلوحية النظام الذي وقع إسقاطه. ولا شك أن الحقل السياسي بوصفه المؤطر لكل الفعاليات الانسانية الأخرى هو المعني أكثر من غيره بأن يشتغل بنسق أرفع. وإذا كان هذا الحقل قد شهد في مستوى النصوص والمؤسسات تطورا لا تخطئه العين ممّا مكّن من وضع أسس مؤسساتية وقانونية هامة في القطع مع دولة التسلّط والانفراد بالرأي فإن عملا كبيرا ينتظر الجميع في مستوى بناء ثقافة سياسية جديدة تمنح هاته المؤسسات فاعلية أكبر. إذ لم تتحول التعدّدية الحزبية إلى تعدّدية سياسية حقيقية ولم ينعكس تعدّد الجمعيات بالشكل الكافي على مختلف مناحي الحياة. ومما يزيد الأمر إزعاجا أن الخطاب السياسي لم يتطوّر بل يزداد للأسف إيغالا في كل ما من شأنه أن يحدّ من المفاعيل الإيجابية للديمقراطية، إذ تتعدّد التعلاّت التي يلجأ إليها البعض لإقصاء من يختلف معهم في الرأي.. وغالبا ما يخفي الميل إلى الاقصاء ضعفا لدى من يمارسه في ما يتعلق بالقدرة على الاستقطاب وفرض الخطاب. لقد كان الكاتب الأمريكي جورج أوريل صاحب رواية «1984» الشهيرة من أوائل الذين تفطنوا إلى تورّط الخطاب في خداع الجمهور. إذ يعتقد أوريل أن اللغة المستخدمة في الخطاب السياسي «هي بالضرورة غامضة، ولا معنى لها، صممت لجعل الأكاذيب تبدو صادقة، لكنها في الحقيقة قاتلة بطريقة محترمة، لأنها تهدف إلى إخفاء الحقيقة بدلا من التعبير عنها». وفي الوقت الذي تتخبط فيه بلادنا في أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة يتبارى سياسيونا للأسف في إخفاء الحقائق وتسويق خطاب مخادع وانتهاج سلوك سياسي منحط. ولعل من مظاهر الانحطاط في مستوى الخطاب وسلوك السياسيين أن الجميع يعيد انتاج نفس الممارسات لأنه يصيغ نفس الخطاب فقد ظل الخطاب إقصائيا لا يؤمن بالاختلاف ولا يعتبره منافسا سياسيا بل خصم يتعيّن التخلّص منه. كما أن الاحزاب لم تتحول الى أحزاب برامج بل هي أحزاب مناكفات وصراعات ووعود انتخابية لا تتحقّق حين يفرض الأمر مخاطبة الجماهير في الاستحقاقات الانتخابية. الثابت اليوم أن هذه الأحزاب جميعها بلا استثناء فقدت اليوم قيمتها ومصداقيتها بعد أن عجزت عن نيل ثقة الشعب الذي يزداد نفوره من العمل السياسي يوما بعد آخر.. وبعد أن فتحت دكاكينها لتسويق الوهم للمواطنين معتمدة على برامج تغيب فيها أفكار هي في الأصل غير قادرة حتى على إقناع منخرطيها.