لقد جاءت نهضة قرطاج التي هيمنت في عصر ما على المتوسط من التجارة البحرية مستغلة أفضل استغلال الموقع الاستراتيجي لتونس التي تتوسط المتوسط على مضيق صقلية و تتوسط الشمال الافريقي و القارتين العجوز و السمراء. كما اهتمت بتطوير العلوم الفلاحية و بلغت فيها شوطا كبيرا و صنعت أمنها الغذائي و رخاءها الحضاري و نظامها السياسي الذي أشاد به كبار فلاسفة الاغريق دون بترول و دون ترفيع في الجباية لاثقال كاهل المواطن. كما أن دولة الإستقلال التي أرسى دعائمها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كانت دولة اجتماعية بامتياز اعتمدت على القطاع العام في ستينيات القرن العشرين مع أحمد بن صالح ثم اختارت النهج الليبرالي في سبعينيات نفس القرن مع المرحوم الهادي نويرة. و كانت ليبراليتها اجتماعية شبيهة بالنمطين الألماني و السويسري لا علاقة لها بالرأسمالية المتوحشة التي يسعى إليها صندوق النقد الدولي و التي يعيشها التونسيون اليوم و تسعى إلى رفع الدعم عن المواد الأساسية و إلى خصخصة القطاع العام و إلى ضرب الصحة و التعليم العموميين في مقتل و الإنتصار للقطاع الخاص الذي ليس في متناول ذوي الدخل المحدود. لقد راهن بورقيبة على مجانية التعليم و سعى قدر المستطاع إلى تحقيق مستوى صحي مرموق، و حرص على خلق طبقة وسطى لتكون لاحقا عماد الاقتصاد التونسي و تنوعت موارد الدولة و تحققت الانتعاشة خلال عقد السبعينيات. و حقق التونسيون نسبة نمو من رقمين دون ثروات طاقية هائلة و دون استهداف المواطن بكثرة الضرائب مثلما هو حاصل اليوم بعد أن أدرك بورقيبة و أعضاده أن تونس غنية بتنوع مواردها و عدم اعتمادها على قطاع دون سواه. و رغم قلة التجربة في الحياة السياسية فإن رجال الدولة الذين أحاطوا بالزعيم بورقيبة خصوصا خلال عقدي الستينيات و السبعينيات للقرن العشرين نجحوا إلى حد بعيد في تحسين الأوضاع الاجتماعية من خلال تنويع موارد الميزانية دون ترفيع في الأسعار و دون الاعتماد على المجبى. لقد خلقوا المؤسسات العمومية الصناعية الضخمة و أنشؤوا قطاعا سياحيا ذا مردودية عالية من لا شيء و طوروا الفلاحة و بنوا السدود و نجحوا في جلب الاستثمارات الخارجية و كفاهم فخرا أن التعليم العمومي الذي كان متاحا للغني و الفقير على حد سواء في زمانهم كان طريقا للارتقاء الطبقي قدسه التونسيون و ضحوا من أجله بالغالي و النفيس لانتشال كثير منهم من البؤس و الفقر و الخصاصة. بالمقابل يبتلى التونسيون اليوم بعجزه عن ابتكار حلول خارج إطار الجباية و الترفيع في الأسعار و التسول من الخارج، و لعمري فإن التصحر الفكري و العجز عن ابتكار الحلول التنموية لهو أهم عوائق التنمية.