يبقى 14 جانفي 2011 حدثا متميّزا في تاريخ تونس المعاصر. وبصرف النظر عن الاختلافات في تقييم هذا الحدث من خلال تغليب العوامل الداخلية او الخارجية التي أدت الى رحيل زين العابدين بن علي فإن الحدث في حد ذاته يخفي دلالات اقتصادية واجتماعية ويحظى الى حد الآن بما يتعين ان يحظى به من عناية واهتمام لعدة اعتبارات من أهمها طغيان القراءة السياسية للحدث وهي قراءة استفاد منها بكل تأكيد المجتمع التونسي ،ولكن هذه الاستفادة ظلت محدودة ولم ينتفع بثمارها الا النخب السياسية. رحيل بن علي كان دليلا على عجز كامل لنمط حكم وتفاعل مع المجتمع قوامه المركزية المفرطة وتهميش فئات وجهات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتواصل تهميشها. لقد أصاب هذا النمط القيم الاجتماعية في مقتل وهو ما أدى الى حالة من اللامعيارية والى سيادة الانتهازية والتواكل والبحث عن الربح السريع وغيرها من الأمراض الاجتماعية التي لم نشرع بعد في علاجها. لا يمكن في اعتقادنا أن يتحول 14 جانفي 2011 الى عنوان ثورة حرية وكرامة إذا لم يقترن بثورة تحرّك القيم وترد الاعتبار إلى الشفافية في المعاملات والنزاهة الأخلاقية والنظافة في أبعادها الشاملة والمتكاملة. إن الاعلاء من شأن هذه القيم في الحقول السياسية والاقتصادية والثقافية من شأنه ان يجعلنا نتجاوز حالة الإحباط واليأس التي أخذت تتسرّب الى النفوس والتي تؤدي اذا لم يقع علاجها الى توترات إضافية قد تأتي على المكاسب الهشة التي أمكن تحقيقها والتي لا يمكن إنكارها. إن التغيير الحقيقي الذي ننشده ليس مجرد تغيير في مستوى النظام السياسي بل هو تغيير يذهب الى أعماق البنى الاجتماعية والفكرية والذهنية ليعيد النظر فيها وليؤسسها وفق قواعد سليمة تروم البناء وتمكّن تونس من أن تتحول الى رقم حقيقي في معادلات الفعل الاقليمي والدولي. نعم، نحن في حاجة الى ثورة اليوم... ثورة تحرّر عقولنا من الأفكار المتخلفة ومن ثقافة الفساد.. نحتاج الى ثورة قيم... قيم التهذّب في القول والفعل.. نحتاج الى ثورة الانتماء والعمل وقبل كل هذا نحتاج الى ثورة حقيقية في التعليم لكي لا يضيع أبناؤنا من أجيال تونس القادمة في المجهول. نحتاج الى إعادة هيكلة شاملة لمنظومة التعليم ليتحوّل الى منظومة ايجابية تنويرية تجعل التلميذ او الطالب يتأمل ويفكّر ويبدع ويتحوّل من «ناقل» الى «عاقل» مثلما يقول ابن رشد.. لا معنى اليوم لأي ثورة إذا لم تنفجر منها عشرات الثورات التي نحتاج اليها لكي نعيد بناء مجتمعنا على أسس سليمة ولكي نضعها في الصف الذي يليق بها بين مصاف الدول الراقية.