من الأكيد أننا لن نتقدّم دون فَهْم عيوبنا ومساوئنا ونقاط ضعفنا كما أيضا، نقاط قوّتنا وميزاتنا...محرّك التقدّم في مختلف المجتمعات وفي مختلف المجالات العلميّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والتربويّة والثقافيّة هو النقد والنقد الذاتي...والمهمّ في ذلك هو أن يكون الرأي موضوعيّا، بعيدا عن الذاتيّة والتحامل، وبنّاء يراكم الجميل والأفضل والمفيد في تجاربنا مهما كان بُعْدها وقيمتها...للأسف الشديد نتحدث كثيرا عن النهضة وعن الوهابيّة والإسلام السياسي لكنّنا لا نتحدّث أبدا عمّا هو غير ذلك أي: نحن. ما سوى ذلك هو: نحن. ما هو خارج عن منافسينا المباشرين هو: نحن. هل نحن فوق الأخطاء، ونتميّز بالكمال، ونفكّر أفضل من الآخرين، وبالطبع أذكى منهم، وبكلّ تواضع ( موهوم ) مواقفنا هي الأصح والآخرون هم دائما مخطئون؟؟؟ هل نحن مرضى دون أن نعرف ذلك؟ قبل كل شيء لا بدّ من الاعتراف والإقرار أن كلّ طموح هو شرعيّ، وأنّ المنافسة الشريفة هي دائما محمودة، بل ضروريّة للتقدّم في مختلف القطاعات. لكن من خلال تقييمنا لتجاربنا الخاصة في المجالات القريبة من اهتماماتنا نلاحظ أننا ما زلنا بعيدين كلّ البُعْد عن الأداء المطلوب وعن النّأي بأنفسنا عن الأنانيّة المقيتة التي تُخْفي من ورائها انتهازيّة مفزعة، تجعلنا طرفا ضعيفا في المجتمع وفي العلم وفي السّياسة...نحن مازلنا « مجتمعا جزيريّا» (une société insulaire). المجتمع الجزيري يمتلك ارتكاسات ( réflexes) وردود فعل تنطلق من واقع العُزْلة والضعف والخوف لتتحوّل إلى مواقف عدائيّة تجاه الآخرين، خالقة من خلال ذلك سلوكا انطوائيّا يحتّمه الدفاع عن الذات وعن المصالح الشخصيّة وعن المسارات الضيّقة...نحن دون استثناء، كلّنا شركاء في خلق هذا الوضع، ثقافة الخوف الموروثة والممزوجة بالانتهازيّة حتما، جعلتنا نتصرّف وفق الارتكاسات الجزيريّة. هذا التصرّف بديهيّ لكنه مَرَضيّ، يجعل تقاربنا مستحيل واتفاقنا بدعة واتحادنا معجزة...وهو أمر يجعلنا ندخل بصفة غير إراديّة إلى مربّع الضُّعف المزمن، وبالتالي تصبح كل معاركنا المقبلة، هزائم مُسْبَقة. سأحاول توصيف هذا الوضع انطلاقا من أقرب المجالات إليّ، أي البحث العلمي، ثم سأتناول الأوضاع السياسيّة، وأخيرا سأعرّج على صداقاتنا الفايسبوكيّة من خلال الشبكات الاجتماعيّة الافتراضيّة. جزر البحث العلمي توجد في البلاد التونسيّة العشرات من مراكز البحث والمخابر ( وأنا هنا أتكلّم كمدير مخبر) ووحدات البحث المنتشرة في كل الجامعات، وتهمّ مختلف الاختصاصات، وتخُصّ مئات الباحثين، لكن للأسف الشديد لا نلمس أيّ عمل مشترك بين هذه « الجزر « المختلفة و المتفرّقة، بل الأدهى أنّه لا توجد علاقات تنسيق أو صداقة أو شراكة بين الهيكل والآخر. كلّنا مذنبون، كلّ واحد منا لا يعرف ماذا يفعل الآخر وهو تصرّف يتنافى مع فكرة البحث العلمي، والابتكار، والإبداع. كلنا نستعمل المال العموميّ للتقدّم بالبحث لكن كلّنا يخون الأمانة بطريقته. المرض هو نفسه، لا تبحثوا كثيرا. كلّ واحد يعتبر نفسه علّامة زمانه، كلّ واحد يعتبر نفسه الأكفأ....وكلّ واحد منّا عندما يلتفت يمينا أو يسارا لا يرى سوى صورته، كلّنا زعماء في العلم. هذا المرض المقيت انتشر وأصبح وراثيّا، لأنّه انتقل إلى طلبتنا، وهكذا يمكن أن يقدّم أحد الطلبة مذكرة بحث أو أطروحة يناقش مسائل كتبنا فيها وناقشناها منذ ثلاثين سنة، دون ذكر من سبقه، ودون الرجوع إلى ما توصّل إليه الآخرون من قبله...هكذا أصبحت مهمّتنا نشر الجهل لا نشر العلم والمعرفة...هذا القليل من كثير أُعفيكم من إضاعة الوقت فيه. ومن المضحكات المبكيات أن بعض الباحثين في إطار عمل مشترك لا يقرأ سوى ما كتبه هو فقط ولا يتجرّأ على مقارعة أفكاره بأفكار الآخرين...نعم كلّ واحد منّا يعيش في جزيرته الخاصّة، مع اكتفاء ذاتي علمي واجتماعي... جزر السّياسة لا يختلف عالم السّياسة في شكله عن العالم الأكاديمي، ولربّما كان التدهور أعمق. لن نتحدّث عن مئات الأحزاب التي ظهرت ثم اندثرت، ولا عن مئات المترشّحين في مختلف المحطّات ولمختلف الاستحقاقات، بل سنتحدّث عن واقع التشرذم لمختلف العائلات و الحساسيّات السّياسيّة التي تدّعي اليوم أنّها تدافع عن الحداثة وعن الدولة المدنيّة ولا أضيف إلى ذلك شيئا آخر. هذه الأرخبيلات المتكوّنة من شخصيّات سياسيّة فعليّة كانت أو وهميّة، ومن «نبّارة « منتظمين أو فرادى، ومن محلّلين، ومن ذئاب جائعة تقتنص فرصة الاستحواذ على موقع أو منصب، لا يجمع بينها برنامج مشترك ولا مبادىء تتقاسمها. وهي لا تعطينا صورة الأحزاب المهيكلة، التي تعتمد على برامج وعلى قوانين داخليّة تنظم النشاط والتنافس داخلها أو في الفضاء العام، بل توحي لنا أحيانا أننا في ماراطون نيويورك، الكل يجري ويلهث والبقاء للأصلح. كيف نفسّر هذه الوضعيّة الكارثيّة في داخل العائلة السياسيّة الواحدة، كلّ فرد هو زعيم، والقاعدة العامة هو تنافس هذه الزعامات التي تخلق جزرها الخاصة لتعيش فيها وتعتقد أنها « تناضل» منها. قلنا منذ البداية أنّ الطموح مشروع والتنافس محمود، لكن لا بد من ضبط قواعد أخلاقيّة وسياسيّة لكل ذلك. وفي غياب هذه القواعد تصبح المنافسة حربا شعواء لا يمكن التكهّن بعواقبها بل من المؤكّد أنّها تنذر دائما بنهاية بائسة ( شقوق وشقوق الشقوق وتوريث ووو...). وقبل وضع هذه القواعد يتعيّن عل مختلف مكوّنات المجتمع السياسي الإيمان بدولة القانون، والاعتقاد الفعلي في أنّ النهج الديموقراطي هو الحل الأوحد والوحيد لحلّ كل مشاكلنا، سواء الحزبيّة الداخليّة أو التي تهمّ الشأن العام. وللخروج من هذا المأزق أصبح من الضروري، ترك حرب الزعامات جانبا، وجعل « الأنا « يتواضع أمام المصلحة العامّة والمبادىء النبيلة وخاصة حب الوطن دون حسابات. وذلك لا يكون إلاّ بتدمير « جزر السياسة «، حيث تقبع كل كتيبة داخل جزيرتها الخاصة، يسبح أعضاؤها ليلا نهارا في نفس الأفكار ويرددون نفس المبادىء ولو كانت قد مرّت عليها مئات السنين... جزر الفايسبوك شبكات التواصل الاجتماعي تسمح لنا بكسر الحواجز والمسافات بيننا في إطار تبادل حرّ و «غير مشروط « للأفكار والمعلومات والنصائح والنوادر والعبَر...وهذا كله إيجابي خاصة عندما نتجنب الأخبار الزائفة أو استعمال هذه الوسيلة للثلب وهتك الأعراض...لكن لا ننسى أنّ اختياراتنا لصداقاتنا هيّ موجّهة منذ البداية نحو أصدقائنا فقط، نحو الذين نتقاسم معهم نفس الأفكار ونفس التوجّهات أو الإيديولوجيا أو نفس الجهة أو نفس الجمعيّة الرياضيّة... فنحن نضع أنفسنا منذ البداية في جزيرة، نتبادل نفس الأفكار ونفس المعلومات مع نفس الأشخاص...ونحن لا نطمح إلى ما هو أفضل من ذلك فتلك لعبة لها قواعدها وقبلناها. لكن رغم تصرّفنا « الجزيري « هذا لم ننجُ من حرب الزعامات، فالبعض ممّن يعتقدون أو يتوهّمون أنك تنافسهم فكريّا أو اجتماعيّا (علائقيّا)، تراهم رغم وجودهم في جزيرتك، وقبلوا صداقتك، أنّهم لا يقرؤون أبدا ما تكتب، ولا يتفاعلون أبدا مع آرائك. طبعا هذا دليل على ضعفهم وعلى خوفهم غير المبرّر، لكن في الآن ذاته هذا يعكس كم نحن مازلنا بعيدين عن بناء العلاقات المشتركة والجبهات الوطنيّة، والحداثة الموهومة في جزر الشاق واق...الحقيقة أنّه رغم آلاف الأصدقاء الافتراضيين والمُفْتَرَضين، تعرف انّ جزيرتك لا تحتوي سوى على عدد ضئيل لا يتجاوز خمسين نفرا من أبناء العشيرة، وأبناء البلدة وبعض أصدقاء الدراسة وبعض المريدين من الطلبة فقط لا أكثر...جزرنا صحاري... ومبادؤنا هشّة... وخوفنا يكبّلنا ....وطمعنا كاد يقضي علينا...والأنا عندنا يتضخّم إلى حدّ الانفجار والاندثار.... أصدقائي، كلنا « جزيري «، هل آن الأوان أن ندخل القارة مع بعضنا؟؟؟