جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    قافلة الصمود تُعلن العودة إلى تونس بعد رفض مصر منح التراخيص    قائمة الدول التي تصنّع وتملك السلاح النووي: من يملك القوة النووية في العالم؟    باكستان تغلق حدودها مع إيران    لا تفوت المشاهدة : موعد مباراة تشيلسي ضد لوس أنجلوس فى كأس العالم للأندية    عاجل/ باكستان: المصادقة على مشروع قرار يدعم إيران ضد إسرائيل    عاجل/ إضراب جديد ب3 أيام في قطاع النقل    بطولة برلين: أنس جابر تتأهل إلى الدور ثمن النهائي    فيليبي لويس: "أرقام الترجي الرياضي مبهرة حقا .. ولاعبوه يتميزون بروح قوية"    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    عاجل/ هذا موقف وزارة العدل من مقترح توثيق الطلاق الرضائي لدى عدول الإشهاد..    الكأس الذهبية: المنتخب السعودي يتغلب على نظيره الهايتي    منوبة: الاحتفاظ بمربيّي نحل بشبهة إضرام النار عمدا بغابة جبلية    إجمالي رقم اعمال قطاع الاتصالات تراجع الى 325 مليون دينار في افريل 2025    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    منذ بداية السنة: تسجيل 187 حالة تسمّم غذائي جماعي في تونس    عاجل/ هذه حصيلة قتلى الكيان الصهيوني جراء القصف الايراني..    من هو الهولندي داني ماكيلي حكم مباراة الترجي وفلامينغو في كأس العالم للأندية؟    معرض باريس الجوي.. إغلاق مفاجئ للجناح الإسرائيلي وتغطيته بستار أسود    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    243 ألف وحدة دم أُنقذت بها الأرواح... وتونس مازالت بحاجة إلى المزيد!    كهل يحول وجهة طفلة 13 سنة ويغتصبها..وهذه التفاصيل..    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    كيف نختار الماء المعدني المناسب؟ خبيرة تونسية تكشف التفاصيل    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    الحماية المدنية: 536 تدخلا منها 189 لإطفاء حرائق خلال ال 24 ساعة الماضية    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    صاروخ إيراني يصيب مبنى السفارة الأمريكية في تل أبيب..    اليوم الإثنين موعد انطلاق الحملة الانتخابية الخاصة بالانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة بنزرت الشمالية    وفد من وزارة التربية العُمانية في تونس لانتداب مدرسين ومشرفين    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    طقس اليوم..الحرارة تصل الى 42..    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    بعد ترميمه فيلم "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميا لأوّل مرّة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    زفاف الحلم: إطلالات شيرين بيوتي تخطف الأنظار وتثير الجدل    المبادلات التجارية بين تونس والجزائر لا تزال دون المأموال (دراسة)    الإعلامية ريهام بن علية عبر ستوري على إنستغرام:''خوفي من الموت موش على خاطري على خاطر ولدي''    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    إطلاق خط جوي مباشر جديد بين مولدافيا وتونس    باجة: سفرة تجارية ثانية تربط تونس بباجة بداية من الاثنين القادم    هل يمكن أكل المثلجات والملونات الصناعية يوميًا؟    موسم واعد في الشمال الغربي: مؤشرات إيجابية ونمو ملحوظ في عدد الزوار    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤتمر العاشر لحركة «النهضة» في سياق الأولويات الوطنية:البناء النهضوي كمساهمة في بناء رافعة واسعة وصلبة للمشروع الوطني
نشر في التونسية يوم 26 - 03 - 2016

«الكلمات تبقى على حالها، والمبادئ لم تتغير، لكن القواعد تختلف، وكذلك الرسالة»
مارسيل غوشيه : الدين في الديمقراطية
بقلم: عبد الحميد الجلاصي (نائب رئيس «النهضة» ومسؤول التفكير الاستراتيجي والتّخطيط)
يستحسن أن يضع الفاعلون السياسيون، وكل المهتمين بالشأن العام، مجموعة من الحقائق نصب أعينهم:
-1 نحن نموذج ناجح لبلد في قلب عملية بناء ديمقراطي. حققنا عبر حوارنا، وحتى صراعنا، خطوات مهمة في مسارنا، ولكننا لم نصل بعد الى تلك المحطة المهمة التي يمكننا فيها ان نهتف: لقد أصبحنا بلدا ديمقراطيا، ولا خوف من الردة.
تجربة الأمم توكد ان مثل هذه المراحل تكون عادة طويلة، ومعقدة، ومتعرجة، ومتشعبة، ويترافق فيها التقدم مع التراجع، وتحتمل الفوز كما تحتمل الارتكاس.
وما يعرقل هذه المسارات، عادة، هو استمرار التجاذب حول معالجة مظالم الماضي، وخاصة الإبطاء في الاستجابة لمطلب العدالة الاجتماعية، والتعثر في التصدي للفساد وآثاره، وهو القرين الملازم لكل استبداد.
الإبطاء في الاستجابة لمطالب الاجتماعي يمكن ان يلتهم كل مكاسب السياسي.
الوصفة الناجحة لترسيخ المسارات الديمقراطية، وتجاوز كل أصناف الهشاشات، يتمثل في تشكيل أوسع كتلة ممكنة، حول مشروع وطني جامع.
القوى الحاكمة السابقة يجب ان تكون لها الشجاعة الكافية للنقد الذاتي، وللاعتذار عند الاقتضاء، وخاصة التخلص من نوازع وأوهام العودة الى الماضي. يجب عليها ان تدرك ان عصرا جديدا قد حلّ، وأنها هي ايضا مستفيدة منه، إذ حررها هي نفسها. يجب أن تكون لها الشجاعة للاعتراف بالجميل للمقاومين.
أما القوى التي تعرضت للاضطهاد، فيجب ان تكون لها القدرة على تجاوز خلافاتها البينية ورواسب الصراعات الأيديولوجية، وأن تمتلك الشجاعة للتجدد والخروج من الشعار إلى البرامج، ومن أدعاء الثورة الى الاشتغال العيني على تحقيق أهدافها. فالثورة في فضاء الدولة تصبح برنامجا وأولويات، تترجم في النهاية ارقاما في الميزانية.
لا بأس أن نذكر هنا بقرامشي، ومحمد عابد الجابري، وطارق البشري، وعبد الوهاب المسيري. ولا بأس ان نفتخر بمثالنا التطبيقي في تونس ما قبل الثورة، من خلال تحالف 18اكتوبر للحقوق والحريات، وأيضا باللحظات التي توحدنا فيها بعد الثورة. صورة المصادقة على الدستور ليلة السادس والعشرين من جانفي سنة 2014 لم تتحول للأسف الى مسار، ويجب ان تتحول الى ذلك.
الكتل التاريخية، أوالتيارات الرئيسية، كما تشكلت في التاريخ، لم تكن ائتلافات حزبية فقط، كانت تضم ايضا القوى الاجتماعية الأكثر تأثيرا.
الكنيسة الكاثوليكية كانت في إيطاليا السبعينات، وبعدها في بولونيا الثمانينات، شريكا مع قوى سياسية عديدة يسارية ووسطية، في قيادة المرحلة. كنيسة أمريكا اللاتينية ابدعت «لاهوت التحرر»، لاهوتا يكون في خدمة الانسان يضيف الى التبشير بالتصورات والشعائر التركيز على «أبعاد الدين الاجتماعية».
ان وصفة إدارة التنوع في مثل هذه الاوضاع الانتقالية يتطلب إبداعا، وتفكيرا خارج الوصفات الجاهزة، أنه يتطلب تفكيرا «خارج الصندوق».
ان وصفتها هي مزيج من التكامل والتنافس. هي وصفة صعبة، لأنها ضد النزوع الفطري. وقد وجدنا صعوبات جمّة في إقناع عدد من الأصدقاء بفلسفة «النهضة» في إدارة حملتها الانتخابية سنة 2011 وخاصة سنة 2014. اذ ان التصور الكلاسيكي للانتخابات انها حرب، وأن الحملة هي إدارة لمعارك تبدأ بتحديد الخصم الرئيسي، ومن ثم استهدافه مباشرة.
لم نكن، في «النهضة»، نرى ذلك. كنا ندرك ان العملية الانتخابية ستنتهي، وستأتي بعدها إدارة العملية السياسية. وكنا نفكر في هذا المستقبل، وكنا نتجنب مصادرته، وأولى خطوات مصادرة المستقبل إنما تبدأ بالمعارك الكلامية.
إن مراحل البناء الديمقراطي تعني الاقتناع «بإمكان تعدد الحلول للمشكل الواحد، وتنوع المداخل لمعالجة قضايا التغيير والإصلاح في بلادنا: فالعدالة الاجتماعية مدخل، والليبرالية السياسية مدخل، وحقوق المرأة مدخل، وحقوق الانسان مدخل، والثقافة والتربية مدخل، والوحدة المغاربية والعربية مدخل... ولا ضير في ان تختلف درجات تركيز فرق الإصلاح والتغيير على هذا العنصر أوذاك. ولأجل ذلك نحن نزّاعون لنسج التحالفات الواسعة، بما يعدد الحلول ويجمعها تنسيقا وانسجاما، بدل تحولها ذريعة للتنازع والاقصاء المتبادل ...»
هذا مقتطف مطول من بيان كتب في 8 جوان 2006.تلك كانت قناعتنا حينها، وتأكدت هذه القناعة اليوم.
مستقبل بلادنا يمكن ان يدار عبر مرحلتين:
- مرحلة الديمقراطية التوافقية، أوالتنافس في إطار التكامل، هي مرحلة «سايس خوك»، من أجل الاستجابة خاصة للاستحقاق الاجتماعي، وتحمل أعبائه ونجاحاته بالتشارك، وتكون نهايتها إرساء الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية. وفيها تحتاج الهندسة السياسية لكل ألوان الطيف. هنا يتعايش الانتخاب مع السياسة، والصندوق مع التوافق.
- مرحلة الديمقراطية التنافسية، أي إطلاق الصراع حسب قوانين السوق السياسي، أي الأقلية والأغلبية.
-2 دخلت لسوق التداول السياسي مفردات التنافس، والبرنامج، والقاعدة الانتخابية، والناخب. نحن امام مشهد انتخابي بكل مكوناته، ولكن هذا المشهد، ككل شيء في البلد، هوفي طور بناء، ولم يستقر بعد. نحن في بداية تشكل مشهد انتخابي. تلفت النظر فيه مجموعة من الحقائق:
أ- القاعدة الانتخابية المفترضة تتجاوز السبعة ملايين تونسي. انتخب منها سنة 2011 حوالي 4.200 ألف ناخب.
هذا الرقم تقلص الى 3.600 ألف ناخب في تشريعيات 2014، ليتدحرج الى 3.200 ألف في الدور الثاني من الرئاسيات في نفس السنة. بما يعني ان جاذبية العملية السياسية تتقلص.
- هل ان المصالحة التي بشرت بها الثورة بين التونسي والسياسة قد وصلت الى حدودها؟ ربما.
- هل توجد فجوة بين زمن الشعب وزمن الطبقة السياسية ؟ ربما.
الثورات ترفع سقف الانتظارات. والسياسيون -حتى ان أحسنوا النية -محكومون بإكراهاتهم.
- هل يوجد سوء تفاهم بين عالم الساسة وعالم الشعب؟
بالتأكيد.
أصبحت البرامج التلفزية حلبات صراع وتنافس وتصفية حسابات. تجاوزت في الإثارة بعض برامج الفضائح الاجتماعية.
الحصيلة ماثلة أمامنا من خلال تدني نسبة المشاركة في الانتخابات، ومن خلال اهتراء منسوب ثقة الناس في الأحزاب السياسية، كما تبرز ذلك النتائج المتعاضدة لاستطلاعات الرأي. اذ لا تتجاوز نسبة الثقة في الساسة ربع المستجوبين والقادم أسوأ ما لم يتداركوا أمرهم.
وحال المعارضة ليس أحسن من حال احزاب الحكم، بل هو أسوأ.
وهكذا تكون النتيجة: ضعف الطالب والمطلوب، بما يعني اهتراء العملية السياسية، وحضور مشكلة القيادة في البلاد، لا بالمعنى القانوني والمؤسساتي وانما بمعنى القدرة على المسك والإنجاز وتوفير الثقة والاطمئنان النفسي.
وهذا وضع يفترض -ان صح -ان يؤرق الأحزاب السياسية لتعكف على محاولة الاجابة عنه.
ب- المتأمل في الخارطة الانتخابية الوليدة يلحظ مؤشرات تدعوالى الانشغال. يلحظ احتمالات انقسام جغرافي وربما ثقافي، واجتماعي، بين ما أسماها الأستاذ المهدي المبروك: «رمال» النهضة، و«أحراش» النداء.
في الليالي الرمضانية لسنة 2013، كان التونسيون يعبرون عن مواقفهم في معسكرين متقابلين، في ساحة باردو، امام مقر المجلس الوطني التأسيسي. وعندما تنتهي «المناوشات»، و«ينفض السامر»، كنت تجد اكتظاظا في اتجاهين متقابلين:
في اتجاه الضواحي الشمالية عبر الطريق
وفي اتجاه الضواحي الشعبية الغربية.
هذا الاصطفاف الميداني عبر عن نفسه لاحقا في اصطفاف انتخابي.
السؤال المطروح وطنيا هوالتالي: هل سيترك تشكيل الخارطة الحزبية، باعتبارها تمثيلا لكتل اجتماعية ومجموعات من المصالح والتطلعات، للعفوية، أولقوى المناولات السياسية، أم سيدار بطريقة عقلانية ،وفقا لعقل سياسي وطني أعلى؟
ت- لم تستطع الأحزاب السياسية، ولا حتى المنتظم الجمعياتي، تقديم نفسه بطريقة جاذبة للشباب التونسي.
لقد تراجع الدور الوطني للحركة الطلابية، كما تراجعت القدرة الاستقطابية للمنظمات والمناشط في الفضاء الجامعي، صانع قادة المستقبل.
الضعف العام للمشاركة في الحياة السياسية، وفي الحياة العامة، يدعوالى الانشغال، لأنه يتعلق بإدارة الحاضر. أما ضعف انخراط الشباب فإنه يدعوالى دق نواقيس الخطر لأنه لا يتعلق بالحاضر فقط، أنه يتعلق بالمستقبل أيضا.
ضعف قدرة الدولة والأحزاب على الإدماج يعني ترك الباب مفتوحا أمام باعة أوهام الدنيا، ومن تجاوزوهم، جهلا ووقاحة، بأن أضافوا الى ذلك بيع أوهام الآخرة.
ان أحد أهم مسالك التصدي للإرهاب يبدأ بأقدار الأحزاب السياسية على اغراء الشباب بالمشاركة في البناء الوطني عبرها اوعبر العمل الجمعياتي، والانتقال من دور الرقابة والاحتجاج و«التنبير» الى مواقع الاقتراح والفعل والمبادرة.
السياسة هي قدرة الفضاء المنظم، من دولة، وأحزاب، ومجتمع مدني، على إعطاء الحلم، والإنجاز، والإدماج. فمن يترك على الهامش يكون عنصر عرقلة أو حتى تخريب.
والسياسة هي أيضا القدرة على التمثيل. والتمثيل درجات، يبدأ من التمثيل العقلاني عن طريق البرامج، ويصل الى التمثيل الرمزي، بما يقارب التماهي وتلبية الحاجة العميقة الى الانتماء. هذه العلاقة بين المنظم الجماعي والأفراد أو الكتل هي تواصل، هي لغة.
نحن هنا ازاء التحدي الرئيسي لمدى قدرة المشهد الحزبي في بلادنا، في هذه المرحلة، حتى يكون ادماجيا لأقصى درجة، حتى لا نترك على الهامش إلا من أبى.
كيف يمكن لوصفة المراحل الانتقالية الجامعة بين التنافس والتكامل، المنطلقة من هندسة وطنية عليا، أن تستجيب لهذا التحدي، وان تكون إدماجية وتسد مواطن الرخاوة والفراغ؟
ننطلق من هذه المسلمات:
- في الأوضاع الديمقراطية تبحث الشعوب عن التوازن، وذكاؤها يمنعها من ان تسلم قيادها لأي قوة بمفردها. لا تعطي تفويضا على بياض لأحد.
لقد انتهى عصر حركات التحرر التي كانت تمثل مجمل الطيف الوطني. الآن، كل الأحزاب تتجه نظريا الى عامة المواطنين، وعامة الناخبين. ولكنها في الحقيقة ترتكز على قاعدة انتخابية معينة. لا يعني ذلك بالضرورة انها تعادي فئة اوجهة، ولكنه يعني فقط انها تمثل البعض أكثر مما تمثل البقية.
ديمقراطيتنا وليدة وما زلنا لم نصل بعد الى الربط بين قواعد انتخابية واحزاب سياسية. سنصل الى ذلك بعد استقرار المشهد الحزبي، وبعد تكرر الامتحان الانتخابي. ستصل الى ذلك خلال سنوات قليلة.
الى ذلك الوقت، سيكون كل جهد لتقطيع segmentation القاعدة الانتخابية تقريبا، ولكنه يسمح - مع ذلك -بإعطاء بعض المؤشرات.
اذا كان المشروع الوطني يرتكز على مجموعة أركان، أهمها الحرية، والعدالة، والهوية، والوحدة، ويلبي كل ركن منها حاجة، ويحقق قدرا من التوازن في الكيان الاجتماعي، فقد تركز بعض القوى على ركن أكثر من البقية، بحيث يكون مجاله «الخاص»، أوعلامته التجارية.
الاستقرار الوطني إنما ينتج من الحصيلة، من التفاعل، من التكامل المخطط له أوالمضمر. سيكون لكل حزب، أو عائلة مجاله، وستكون هناك مناوشات على الحدود الانتخابية، ومواجهات خفيفة على التخوم، في مرحلة تعايش وتنافس، قبل الوصول الى حالة استقرار حزبي، وإلى رسم تقريبي للحدود الانتخابية، التي لن تلغي المنافسة أي تركز على منطقة «السيبة» السياسية، كما تركز على إبراز، أوالتشكيك، في سجل الإنجاز.
اذ أن القاعدة الانتخابية في الأوضاع الديمقراطية بقدر ما فيها من ثبات جزئي، بقدر ما فيها من حراك وتموج. اننا أمام صورة الانقباض والانبساط لآلة الأكورديون.
اننا نرى أن الفضاء الاجتماعي والانتخابي يمكن أن يمثل عبر عدد من العائلات، بما يحقق هدف الإدماج، ويضمن حضور كل أبعاد المشروع الوطني.
ان الفروق بين هذه الكيانات أو العائلات انما تتم من خلال المقارنة بين ثلاثة أصناف من التموقعات: التموقع السياسي والتموقع الاجتماعي، والتموقع الثقافي.
اننا نرى مكانا:
- لعائلة ديمقراطية اجتماعية إسلامية.
- ولعائلة ليبرالية، محافظة أو حداثية.
- ولعائلة ديمقراطية اجتماعية.
- ولعائلة يسارية.
تشكيل هذه الكتلة، الحزبية المتعددة الألوان، والرافعة للمشروع الوطني، والمكونة من كيانات تمثل كل الطيف المجتمعي، وتكون لكل مكون فرادته ونكهته الخاصة،لا يمكن أن تنجح، ولا أن تتحمل أعباء هذا الانتقال، إن لم تكن معضودة بمنظمات اجتماعية كبرى.
أرى تفكير «النهضة» يتموقع في هذا المكان وفي هذا الأفق الوطني. وأرجو أن نشتغل جميعا ضمن هذه الفلسفة التنافسية التكاملية.
الفكرة الجوهرية أن يحدد كل طرف عبر «هويته» السياسية، والاجتماعية، والثقافية قاعدته الانتخابية الأساسية، ويسعى الى الدفاع عنها وتثبيتها ثم إلى القضم من بقية الجسم الانتخابي. وهذا تكون السياسة عملا قاصدا وليس خبط عشواء.
- العائلة الليبرالية يمكن أن تضم طيفا واسعا من الشخصيات، والتجارب، والحساسيات. وبعضها مطلوب منه أن يرتب علاقته بالتاريخ.
الجميع يجيد التبرير. وحدهم الشجعان يجيدون الاعتراف بالأخطاء، ليسمحوا للقاطرة الوطنية بأن تنطلق خفيفة، متحررة من مطبات الماضي.
في شهري نوفمبر وديسمبر من سنة 1987 احتضنت جريدة «العمل» ندوات تقييمية صريحة وعميقة لمسيرة «الحزب الاشتراكي الدستوري»، شارك فيها جامعيون ومثقفون. بعدها أغلق القوس! كان ذلك فجرا كاذبا.
للأسف أرى اليسار التونسي في قلب أزمة هوية، وتموقع. بل لعله قد خسر روحه الاجتماعية -وتلك هي في الأصل نكهته، وفرادته، وبصمته -ليستغرق في مقاربة ثقافوية، وفي معارك أغلبها موهوم.
لعل البلاد ستخسر كثيرا من الوقت قبل ان نكتشف أن ماركس شب ثم شاب، وان أنور خوجة ما كان إلا نسخة رديئة جدا من لينين، وأن القراءة المقاصدية لسانتياغوكاريوولويجي لونجوكانت أكثر وفاء للماركسية من القراءة الحرفية لستالين، وأن مجتهدي الديمقراطية الاشتراكية في النصف الثاني من القرن العشرين كانوا هم الأبناء الحقيقيون لماركس.
نرجو أن يستثمر رفاقنا في «الجبهة الشعبية» الندوة الوطنية القادمة ليطرحوا بجرأة سؤال التجديد والتموقع في سنة 2016 وليس بعدها، وخاصة ليس قبلها! وليتأكدوا أن الوطن يتسع للجميع، وأن الضدية لا يمكن أن تكون هوية ولا برنامجا.
- للعائلة الديمقراطية الاجتماعية مكانها ضمن هذا البناء. لها تاريخ مشرف في مناهضة الاستبداد. بعض مكوناتها وزعاماتها، رفع صوته ضد الاستبداد من داخل المنظومة يوم كان الكلام مكلفا، وبعضها قام بمراجعات مؤلمة من داخل دائرة تيارات الاحتجاج الشبابي. نقطة قوتها هي، بالضبط، نقطة ضعفها ،فهي تتوفر على طاقم من الزعامات، التحدي أمامه ان يتجاوز مشكلات التعايش والتنافس ليرافق اجيالا شابة جديدة تستكمل مسيرته وتحقق ما كان له جرأة وشرف البدء فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.