سعيّد يأذن بتنقيح فصولا من المجلة التجارية    قيس سعيد يُعجّل بتنقيح الفصل 411 المتعلق بأحكام الشيك دون رصيد.    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    أب يرمي أولاده الأربعة في الشارع والأم ترفضهم    تأجيل قضية اغتيال الشهيد محمد البراهمي    تمّ رفضه من قبل الصهاينة بسبب تكلفته العالية .. مخطط حكم غزّة يسقط في الماء    خلال لقائها ببودربالة...رئيسة مكتب مجلس أوروبا تقدّم برنامج تعاون لمكافحة الفساد    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    عاجل/ احتجاجات ليلية وحرق للعجلات في هذه الولاية..    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    عاجل/ انفجار بأكاديمية عسكرية في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية..    وزير الفلاحة: المحتكرون وراء غلاء أسعار أضاحي العيد    دقاش: افتتاح فعاليات مهرجان تريتونيس الدولي الدورة 6    الديوانة تحجز سلعا مهربة فاقت قيمتها ال400 مليون    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده    خلال نصف ساعة.. نفاد تذاكر مباراة الأهلي والترجي في «نهائي إفريقيا»    Titre    الرئيس المدير العام للصيدلية المركزية: نسبة النفاذ للأدوية الجنيسة والبدائل الحيوية في تونس تناهز 55 %    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    القبض على عنصر إجرامي خطير مفتش عنه دوليا في هذه المنطقة    حاولوا سرقة متحف الحبيب بورقيبة الأثري...القبض على 5 متورطين    الكاف: مهرجان ميو يحتفي بفلسطين    عاجل/ بطاقة إيداع بالسجن ضد سعدية مصباح    كلفة انجاز التّعداد العامّ للسّكان والسّكنى لسنة 2024 تناهز 89 مليون دينار – مدير عام معهد الإحصاء    القيروان انقاذ طفل سقط في بئر    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    وزارة الفلاحة تدعو الفلاحيين الى القيام بالمداواة الوقائية ضد مرض "الميلديو" باستعمال أحد المبيدات الفطرية المرخص بها    تقريرنقابة الصحفيين: ارتفاع وتيرة الاعتداءات على الصّحفيين في شهر أفريل    القيروان: الاحتفاظ ب 8 أشخاص من دول افريقيا جنوب الصحراء دون وثائق ثبوت هويّة ويعملون بشركة فلاحيّة    عاجل/ أمريكا تستثني هذه المناطق بتونس والمسافات من تحذير رعاياها    570 مليون دينار لدعم الميزانيّة..البنوك تعوّض الخروج على السوق الماليّة للاقتراض    إتحاد الفلاحة: المعدل العام لسعر الأضاحي سيكون بين 800د و1200د.    اليوم.. حفل زياد غرسة بالمسرح البلدي    سوسة: وفاة شاب غرقا وانقاذ شابين اخرين    البرازيل تستضيف نهائيات كأس العالم لكرة القدم    حجز 900 قرص مخدر نوع "ايريكا"..    بعد تسجيل الحالة الرابعة من نوعها.. مرض جديد يثير القلق    حريق بمستودع بين المروج 6 ونعسان    قابس: تراجع عدد الأضاحي خلال هذه السنة    إسبانيا تمنع السفن المحملة بأسلحة للكيان الصهيوني من الرسو في موانئها    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    ذهاب نهائي رابطة ابطال افريقيا : الترجي يستضيف الاهلي برغبة تعبيد الطريق نحو الظفر باللقب    عاجل : ليفربول يعلن رحيل هذا اللاعب نهاية الموسم    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    محيط قرقنة اللجنة المالية تنشد الدعم ومنحة مُضاعفة لهزم «القناوية»    روعة التليلي تحصد الذهبية في بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الاحتياجات الخاصة    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    الشرطة الفرنسية تقتل مسلحا حاول إضرام النار في كنيس بشمال غرب البلاد    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    بمناسبة اليوم العالمي للمتاحف: الدخول للمتاحف والمواقع والمعالم الأثرية مجانا للتونسيين والأجانب المقيمين بتونس    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤتمر العاشر لحركة «النهضة» في سياق الأولويات الوطنية:البناء النهضوي كمساهمة في بناء رافعة واسعة وصلبة للمشروع الوطني
نشر في التونسية يوم 26 - 03 - 2016

«الكلمات تبقى على حالها، والمبادئ لم تتغير، لكن القواعد تختلف، وكذلك الرسالة»
مارسيل غوشيه : الدين في الديمقراطية
بقلم: عبد الحميد الجلاصي (نائب رئيس «النهضة» ومسؤول التفكير الاستراتيجي والتّخطيط)
يستحسن أن يضع الفاعلون السياسيون، وكل المهتمين بالشأن العام، مجموعة من الحقائق نصب أعينهم:
-1 نحن نموذج ناجح لبلد في قلب عملية بناء ديمقراطي. حققنا عبر حوارنا، وحتى صراعنا، خطوات مهمة في مسارنا، ولكننا لم نصل بعد الى تلك المحطة المهمة التي يمكننا فيها ان نهتف: لقد أصبحنا بلدا ديمقراطيا، ولا خوف من الردة.
تجربة الأمم توكد ان مثل هذه المراحل تكون عادة طويلة، ومعقدة، ومتعرجة، ومتشعبة، ويترافق فيها التقدم مع التراجع، وتحتمل الفوز كما تحتمل الارتكاس.
وما يعرقل هذه المسارات، عادة، هو استمرار التجاذب حول معالجة مظالم الماضي، وخاصة الإبطاء في الاستجابة لمطلب العدالة الاجتماعية، والتعثر في التصدي للفساد وآثاره، وهو القرين الملازم لكل استبداد.
الإبطاء في الاستجابة لمطالب الاجتماعي يمكن ان يلتهم كل مكاسب السياسي.
الوصفة الناجحة لترسيخ المسارات الديمقراطية، وتجاوز كل أصناف الهشاشات، يتمثل في تشكيل أوسع كتلة ممكنة، حول مشروع وطني جامع.
القوى الحاكمة السابقة يجب ان تكون لها الشجاعة الكافية للنقد الذاتي، وللاعتذار عند الاقتضاء، وخاصة التخلص من نوازع وأوهام العودة الى الماضي. يجب عليها ان تدرك ان عصرا جديدا قد حلّ، وأنها هي ايضا مستفيدة منه، إذ حررها هي نفسها. يجب أن تكون لها الشجاعة للاعتراف بالجميل للمقاومين.
أما القوى التي تعرضت للاضطهاد، فيجب ان تكون لها القدرة على تجاوز خلافاتها البينية ورواسب الصراعات الأيديولوجية، وأن تمتلك الشجاعة للتجدد والخروج من الشعار إلى البرامج، ومن أدعاء الثورة الى الاشتغال العيني على تحقيق أهدافها. فالثورة في فضاء الدولة تصبح برنامجا وأولويات، تترجم في النهاية ارقاما في الميزانية.
لا بأس أن نذكر هنا بقرامشي، ومحمد عابد الجابري، وطارق البشري، وعبد الوهاب المسيري. ولا بأس ان نفتخر بمثالنا التطبيقي في تونس ما قبل الثورة، من خلال تحالف 18اكتوبر للحقوق والحريات، وأيضا باللحظات التي توحدنا فيها بعد الثورة. صورة المصادقة على الدستور ليلة السادس والعشرين من جانفي سنة 2014 لم تتحول للأسف الى مسار، ويجب ان تتحول الى ذلك.
الكتل التاريخية، أوالتيارات الرئيسية، كما تشكلت في التاريخ، لم تكن ائتلافات حزبية فقط، كانت تضم ايضا القوى الاجتماعية الأكثر تأثيرا.
الكنيسة الكاثوليكية كانت في إيطاليا السبعينات، وبعدها في بولونيا الثمانينات، شريكا مع قوى سياسية عديدة يسارية ووسطية، في قيادة المرحلة. كنيسة أمريكا اللاتينية ابدعت «لاهوت التحرر»، لاهوتا يكون في خدمة الانسان يضيف الى التبشير بالتصورات والشعائر التركيز على «أبعاد الدين الاجتماعية».
ان وصفة إدارة التنوع في مثل هذه الاوضاع الانتقالية يتطلب إبداعا، وتفكيرا خارج الوصفات الجاهزة، أنه يتطلب تفكيرا «خارج الصندوق».
ان وصفتها هي مزيج من التكامل والتنافس. هي وصفة صعبة، لأنها ضد النزوع الفطري. وقد وجدنا صعوبات جمّة في إقناع عدد من الأصدقاء بفلسفة «النهضة» في إدارة حملتها الانتخابية سنة 2011 وخاصة سنة 2014. اذ ان التصور الكلاسيكي للانتخابات انها حرب، وأن الحملة هي إدارة لمعارك تبدأ بتحديد الخصم الرئيسي، ومن ثم استهدافه مباشرة.
لم نكن، في «النهضة»، نرى ذلك. كنا ندرك ان العملية الانتخابية ستنتهي، وستأتي بعدها إدارة العملية السياسية. وكنا نفكر في هذا المستقبل، وكنا نتجنب مصادرته، وأولى خطوات مصادرة المستقبل إنما تبدأ بالمعارك الكلامية.
إن مراحل البناء الديمقراطي تعني الاقتناع «بإمكان تعدد الحلول للمشكل الواحد، وتنوع المداخل لمعالجة قضايا التغيير والإصلاح في بلادنا: فالعدالة الاجتماعية مدخل، والليبرالية السياسية مدخل، وحقوق المرأة مدخل، وحقوق الانسان مدخل، والثقافة والتربية مدخل، والوحدة المغاربية والعربية مدخل... ولا ضير في ان تختلف درجات تركيز فرق الإصلاح والتغيير على هذا العنصر أوذاك. ولأجل ذلك نحن نزّاعون لنسج التحالفات الواسعة، بما يعدد الحلول ويجمعها تنسيقا وانسجاما، بدل تحولها ذريعة للتنازع والاقصاء المتبادل ...»
هذا مقتطف مطول من بيان كتب في 8 جوان 2006.تلك كانت قناعتنا حينها، وتأكدت هذه القناعة اليوم.
مستقبل بلادنا يمكن ان يدار عبر مرحلتين:
- مرحلة الديمقراطية التوافقية، أوالتنافس في إطار التكامل، هي مرحلة «سايس خوك»، من أجل الاستجابة خاصة للاستحقاق الاجتماعي، وتحمل أعبائه ونجاحاته بالتشارك، وتكون نهايتها إرساء الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية. وفيها تحتاج الهندسة السياسية لكل ألوان الطيف. هنا يتعايش الانتخاب مع السياسة، والصندوق مع التوافق.
- مرحلة الديمقراطية التنافسية، أي إطلاق الصراع حسب قوانين السوق السياسي، أي الأقلية والأغلبية.
-2 دخلت لسوق التداول السياسي مفردات التنافس، والبرنامج، والقاعدة الانتخابية، والناخب. نحن امام مشهد انتخابي بكل مكوناته، ولكن هذا المشهد، ككل شيء في البلد، هوفي طور بناء، ولم يستقر بعد. نحن في بداية تشكل مشهد انتخابي. تلفت النظر فيه مجموعة من الحقائق:
أ- القاعدة الانتخابية المفترضة تتجاوز السبعة ملايين تونسي. انتخب منها سنة 2011 حوالي 4.200 ألف ناخب.
هذا الرقم تقلص الى 3.600 ألف ناخب في تشريعيات 2014، ليتدحرج الى 3.200 ألف في الدور الثاني من الرئاسيات في نفس السنة. بما يعني ان جاذبية العملية السياسية تتقلص.
- هل ان المصالحة التي بشرت بها الثورة بين التونسي والسياسة قد وصلت الى حدودها؟ ربما.
- هل توجد فجوة بين زمن الشعب وزمن الطبقة السياسية ؟ ربما.
الثورات ترفع سقف الانتظارات. والسياسيون -حتى ان أحسنوا النية -محكومون بإكراهاتهم.
- هل يوجد سوء تفاهم بين عالم الساسة وعالم الشعب؟
بالتأكيد.
أصبحت البرامج التلفزية حلبات صراع وتنافس وتصفية حسابات. تجاوزت في الإثارة بعض برامج الفضائح الاجتماعية.
الحصيلة ماثلة أمامنا من خلال تدني نسبة المشاركة في الانتخابات، ومن خلال اهتراء منسوب ثقة الناس في الأحزاب السياسية، كما تبرز ذلك النتائج المتعاضدة لاستطلاعات الرأي. اذ لا تتجاوز نسبة الثقة في الساسة ربع المستجوبين والقادم أسوأ ما لم يتداركوا أمرهم.
وحال المعارضة ليس أحسن من حال احزاب الحكم، بل هو أسوأ.
وهكذا تكون النتيجة: ضعف الطالب والمطلوب، بما يعني اهتراء العملية السياسية، وحضور مشكلة القيادة في البلاد، لا بالمعنى القانوني والمؤسساتي وانما بمعنى القدرة على المسك والإنجاز وتوفير الثقة والاطمئنان النفسي.
وهذا وضع يفترض -ان صح -ان يؤرق الأحزاب السياسية لتعكف على محاولة الاجابة عنه.
ب- المتأمل في الخارطة الانتخابية الوليدة يلحظ مؤشرات تدعوالى الانشغال. يلحظ احتمالات انقسام جغرافي وربما ثقافي، واجتماعي، بين ما أسماها الأستاذ المهدي المبروك: «رمال» النهضة، و«أحراش» النداء.
في الليالي الرمضانية لسنة 2013، كان التونسيون يعبرون عن مواقفهم في معسكرين متقابلين، في ساحة باردو، امام مقر المجلس الوطني التأسيسي. وعندما تنتهي «المناوشات»، و«ينفض السامر»، كنت تجد اكتظاظا في اتجاهين متقابلين:
في اتجاه الضواحي الشمالية عبر الطريق
وفي اتجاه الضواحي الشعبية الغربية.
هذا الاصطفاف الميداني عبر عن نفسه لاحقا في اصطفاف انتخابي.
السؤال المطروح وطنيا هوالتالي: هل سيترك تشكيل الخارطة الحزبية، باعتبارها تمثيلا لكتل اجتماعية ومجموعات من المصالح والتطلعات، للعفوية، أولقوى المناولات السياسية، أم سيدار بطريقة عقلانية ،وفقا لعقل سياسي وطني أعلى؟
ت- لم تستطع الأحزاب السياسية، ولا حتى المنتظم الجمعياتي، تقديم نفسه بطريقة جاذبة للشباب التونسي.
لقد تراجع الدور الوطني للحركة الطلابية، كما تراجعت القدرة الاستقطابية للمنظمات والمناشط في الفضاء الجامعي، صانع قادة المستقبل.
الضعف العام للمشاركة في الحياة السياسية، وفي الحياة العامة، يدعوالى الانشغال، لأنه يتعلق بإدارة الحاضر. أما ضعف انخراط الشباب فإنه يدعوالى دق نواقيس الخطر لأنه لا يتعلق بالحاضر فقط، أنه يتعلق بالمستقبل أيضا.
ضعف قدرة الدولة والأحزاب على الإدماج يعني ترك الباب مفتوحا أمام باعة أوهام الدنيا، ومن تجاوزوهم، جهلا ووقاحة، بأن أضافوا الى ذلك بيع أوهام الآخرة.
ان أحد أهم مسالك التصدي للإرهاب يبدأ بأقدار الأحزاب السياسية على اغراء الشباب بالمشاركة في البناء الوطني عبرها اوعبر العمل الجمعياتي، والانتقال من دور الرقابة والاحتجاج و«التنبير» الى مواقع الاقتراح والفعل والمبادرة.
السياسة هي قدرة الفضاء المنظم، من دولة، وأحزاب، ومجتمع مدني، على إعطاء الحلم، والإنجاز، والإدماج. فمن يترك على الهامش يكون عنصر عرقلة أو حتى تخريب.
والسياسة هي أيضا القدرة على التمثيل. والتمثيل درجات، يبدأ من التمثيل العقلاني عن طريق البرامج، ويصل الى التمثيل الرمزي، بما يقارب التماهي وتلبية الحاجة العميقة الى الانتماء. هذه العلاقة بين المنظم الجماعي والأفراد أو الكتل هي تواصل، هي لغة.
نحن هنا ازاء التحدي الرئيسي لمدى قدرة المشهد الحزبي في بلادنا، في هذه المرحلة، حتى يكون ادماجيا لأقصى درجة، حتى لا نترك على الهامش إلا من أبى.
كيف يمكن لوصفة المراحل الانتقالية الجامعة بين التنافس والتكامل، المنطلقة من هندسة وطنية عليا، أن تستجيب لهذا التحدي، وان تكون إدماجية وتسد مواطن الرخاوة والفراغ؟
ننطلق من هذه المسلمات:
- في الأوضاع الديمقراطية تبحث الشعوب عن التوازن، وذكاؤها يمنعها من ان تسلم قيادها لأي قوة بمفردها. لا تعطي تفويضا على بياض لأحد.
لقد انتهى عصر حركات التحرر التي كانت تمثل مجمل الطيف الوطني. الآن، كل الأحزاب تتجه نظريا الى عامة المواطنين، وعامة الناخبين. ولكنها في الحقيقة ترتكز على قاعدة انتخابية معينة. لا يعني ذلك بالضرورة انها تعادي فئة اوجهة، ولكنه يعني فقط انها تمثل البعض أكثر مما تمثل البقية.
ديمقراطيتنا وليدة وما زلنا لم نصل بعد الى الربط بين قواعد انتخابية واحزاب سياسية. سنصل الى ذلك بعد استقرار المشهد الحزبي، وبعد تكرر الامتحان الانتخابي. ستصل الى ذلك خلال سنوات قليلة.
الى ذلك الوقت، سيكون كل جهد لتقطيع segmentation القاعدة الانتخابية تقريبا، ولكنه يسمح - مع ذلك -بإعطاء بعض المؤشرات.
اذا كان المشروع الوطني يرتكز على مجموعة أركان، أهمها الحرية، والعدالة، والهوية، والوحدة، ويلبي كل ركن منها حاجة، ويحقق قدرا من التوازن في الكيان الاجتماعي، فقد تركز بعض القوى على ركن أكثر من البقية، بحيث يكون مجاله «الخاص»، أوعلامته التجارية.
الاستقرار الوطني إنما ينتج من الحصيلة، من التفاعل، من التكامل المخطط له أوالمضمر. سيكون لكل حزب، أو عائلة مجاله، وستكون هناك مناوشات على الحدود الانتخابية، ومواجهات خفيفة على التخوم، في مرحلة تعايش وتنافس، قبل الوصول الى حالة استقرار حزبي، وإلى رسم تقريبي للحدود الانتخابية، التي لن تلغي المنافسة أي تركز على منطقة «السيبة» السياسية، كما تركز على إبراز، أوالتشكيك، في سجل الإنجاز.
اذ أن القاعدة الانتخابية في الأوضاع الديمقراطية بقدر ما فيها من ثبات جزئي، بقدر ما فيها من حراك وتموج. اننا أمام صورة الانقباض والانبساط لآلة الأكورديون.
اننا نرى أن الفضاء الاجتماعي والانتخابي يمكن أن يمثل عبر عدد من العائلات، بما يحقق هدف الإدماج، ويضمن حضور كل أبعاد المشروع الوطني.
ان الفروق بين هذه الكيانات أو العائلات انما تتم من خلال المقارنة بين ثلاثة أصناف من التموقعات: التموقع السياسي والتموقع الاجتماعي، والتموقع الثقافي.
اننا نرى مكانا:
- لعائلة ديمقراطية اجتماعية إسلامية.
- ولعائلة ليبرالية، محافظة أو حداثية.
- ولعائلة ديمقراطية اجتماعية.
- ولعائلة يسارية.
تشكيل هذه الكتلة، الحزبية المتعددة الألوان، والرافعة للمشروع الوطني، والمكونة من كيانات تمثل كل الطيف المجتمعي، وتكون لكل مكون فرادته ونكهته الخاصة،لا يمكن أن تنجح، ولا أن تتحمل أعباء هذا الانتقال، إن لم تكن معضودة بمنظمات اجتماعية كبرى.
أرى تفكير «النهضة» يتموقع في هذا المكان وفي هذا الأفق الوطني. وأرجو أن نشتغل جميعا ضمن هذه الفلسفة التنافسية التكاملية.
الفكرة الجوهرية أن يحدد كل طرف عبر «هويته» السياسية، والاجتماعية، والثقافية قاعدته الانتخابية الأساسية، ويسعى الى الدفاع عنها وتثبيتها ثم إلى القضم من بقية الجسم الانتخابي. وهذا تكون السياسة عملا قاصدا وليس خبط عشواء.
- العائلة الليبرالية يمكن أن تضم طيفا واسعا من الشخصيات، والتجارب، والحساسيات. وبعضها مطلوب منه أن يرتب علاقته بالتاريخ.
الجميع يجيد التبرير. وحدهم الشجعان يجيدون الاعتراف بالأخطاء، ليسمحوا للقاطرة الوطنية بأن تنطلق خفيفة، متحررة من مطبات الماضي.
في شهري نوفمبر وديسمبر من سنة 1987 احتضنت جريدة «العمل» ندوات تقييمية صريحة وعميقة لمسيرة «الحزب الاشتراكي الدستوري»، شارك فيها جامعيون ومثقفون. بعدها أغلق القوس! كان ذلك فجرا كاذبا.
للأسف أرى اليسار التونسي في قلب أزمة هوية، وتموقع. بل لعله قد خسر روحه الاجتماعية -وتلك هي في الأصل نكهته، وفرادته، وبصمته -ليستغرق في مقاربة ثقافوية، وفي معارك أغلبها موهوم.
لعل البلاد ستخسر كثيرا من الوقت قبل ان نكتشف أن ماركس شب ثم شاب، وان أنور خوجة ما كان إلا نسخة رديئة جدا من لينين، وأن القراءة المقاصدية لسانتياغوكاريوولويجي لونجوكانت أكثر وفاء للماركسية من القراءة الحرفية لستالين، وأن مجتهدي الديمقراطية الاشتراكية في النصف الثاني من القرن العشرين كانوا هم الأبناء الحقيقيون لماركس.
نرجو أن يستثمر رفاقنا في «الجبهة الشعبية» الندوة الوطنية القادمة ليطرحوا بجرأة سؤال التجديد والتموقع في سنة 2016 وليس بعدها، وخاصة ليس قبلها! وليتأكدوا أن الوطن يتسع للجميع، وأن الضدية لا يمكن أن تكون هوية ولا برنامجا.
- للعائلة الديمقراطية الاجتماعية مكانها ضمن هذا البناء. لها تاريخ مشرف في مناهضة الاستبداد. بعض مكوناتها وزعاماتها، رفع صوته ضد الاستبداد من داخل المنظومة يوم كان الكلام مكلفا، وبعضها قام بمراجعات مؤلمة من داخل دائرة تيارات الاحتجاج الشبابي. نقطة قوتها هي، بالضبط، نقطة ضعفها ،فهي تتوفر على طاقم من الزعامات، التحدي أمامه ان يتجاوز مشكلات التعايش والتنافس ليرافق اجيالا شابة جديدة تستكمل مسيرته وتحقق ما كان له جرأة وشرف البدء فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.