لم يكن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة سابقاً ذلك الحاضر الغائب، لم يكن مجرد عجوز طاعن في السن تحركه من وراء المشهد مجموعة من المنتفعين الذين يرون في شخصيته لمسة ضرورية من الشرعية، وستاراً يجنبهم معارك سياسية عاصفة، كان بوتفليقة في زمن ما ذئباً سياسياً ضارياً وزيراً لخارجية الجزائر الصاعدة في الستينيات والسبعينيات، وصاحب بصمة مهمة في بناء صورة الجزائر العربية والعالمية، عندما تصدى لتمثيل الجزائر في صراعات حربي 1967 و1973، التي كانت الجزائر مع العراق من أكثر الدول العربية غير الحدودية مع (إسرائيل) مساهمة في وقائعهما، وحين تزعم الحراك الدبلوماسي للتقريب من إيران الشاه الذي كان على حافة خريفه، والزعيم الصاعد في العراق صدام حسين، ومع نوبات وساطته في مغامرات المنظمات الثورية الفلسطينية التي كانت تعتبر جزائر الثورة حليفاً أساسياً. كان بوتفليقة جزءاً من الحل للخروج من عشرية التسعينيات السوداء، التي وضعت الجزائر على أعتاب النموذج الأفغاني، أو ما هو أعنف، عندما التهم الإرهاب عشرات الآلاف من الجزائريين، في بروفة أولية لما أصبح بعد أمراً واقعاً وروتينياً في العراق وسوريا، وقياساً بحسني مبارك مثلاً، أو القذافي أو علي عبد الله صالح، فبوتفليقة يمتلك غطاء من الشرعية، ولا يستحق بالتأكيد النهاية التي يسعى لها آلاف المتظاهرين في مختلف المدن الجزائرية، الذين يواجهون صورة بوتفليقة لا بوتفليقة نفسه. سقطت الثورة الجزائرية مبكراً في دوامة الفساد، فالاستعمار الفرنسي بطبيعته لم يكن يشجع إدماج الأهالي في المؤسسات المدنية والوظائف الإدارية المناسبة، وكان في حالة الجزائر يحمل إصراراً على وضع جالية فرنسية كبيرة في المدن الكبرى مثلت الطبقة البيروقراطية التي تنظر إلى الجزائريين بدونية، تعوض مكانتها المتدنية أصلاً في المجتمع الفرنسي الذي نبذها، لتتولى مهمة استصلاح فرنسا ما وراء البحار (الجزائر)، ولذلك خرجت الجزائر إلى خواء كبير للسيطرة على أراضٍ مترامية، لم تكن يوماً مشروع الشعب الجزائري، بل تعبيراً عن النهم الفرنسي للاستيلاء على ما تيسر من أرض الصحراء الكبرى، ولذلك كان صعباً ألا تنزلق الإدارة في الجزائر إلى الارتجال وهو الباب الواسع للفساد.وبمعنى أو بآخر، فترشيح بوتفليقة لعهدة (فترة) خامسة أمر مختلف عن ضرورة محاربة الفساد، التي جرى تأجيلها وتسويفها تحت طائلة أسباب وتبريرات أمنية، ضمن حلقة تقليدية تراكمت وتوسعت تاريخياً، فالتيار الإسلامي صعد ليحارب الفساد، على أساس الربط بين الوازع الديني والترفع عن الارتزاق من المناصب، وبمجيء الإسلاميين من خلال آليات الديمقراطية، تبين أنهم يضيفون إلى الارتجال رعباً يقوم على محورين، الأول، شهوة السلطة الجارفة لإشغال مواقع النفوذ والتأثير حتى من غير المؤهلين لذلك. والثاني، في الرغبة في وضع معايير متزمتة بناء على فهمهم الخاص للسلفية ذات الطابع التطهري المتطرف، المنتمي إلى الآخرة أكثر من الدنيا.