رَغم مرور سِنين طويلة على مُغادرته الميادين فإن اللّمسات الفنية الهرقال مَازالت راسخة وعَالقة في أذهان «الستادستية» والجماهير التونسية خاصّة أن «الفنّان» عبد الحميد دافع عن الأزياء الوطنية لأعوام كثيرة جَاور خلالها «الكِبار» أمثال طارق ومعلول والحسومي وبن يحيى والركباوي... وسجّل الهرقال أيضا أفضل الأهداف ومن المُؤكد أن صُورة «قذيفته الخُرافية» في شباك العِملاق الأنقليزي «بِيتر شليتون» سنة 1990 ب»مَريول» المنتخب عَصية عن النِسيان وستظل بمرور الأيام والأعوام «مَرجعا» لا غِنى عنه في تحديد المَوهبة الحقيقية وتَمييز الكرة الفِعلية عن «كرة الجريء» التي «قَاطعها» ضيفنا بلا رجعة نتيجة مردودها الهَزيل وإفلاسها الكَبير. المعروف أنك في «قطيعة» مع الكرة التونسية فهل أنت ثابت على موقفك أم أن المَسألة ظَرفية؟ لقد هَجرتُ البطولة المحلية منذ فترة ليست بالقَصيرة. وقد تَتفاجأ أكثر عندما تعلم بأنّني فضّلت يوم أمس الأوّل مُشاهدة لقاء «الأرسنال» أمام «تُوتنهام» على متابعة «الدربي» البَاهت بين الملعب التونسي والترجي الرياضي وذلك رغم القِيمة التاريخية لهذه المُباراة ورغم العَلاقة العُضوية التي تَربطني ب»البَقلاوة» وصِلتي المعروفة بالترجي الذي كنت قد خُضت معه تَجربة عَابرة. إنّ قرار «الهِجرة الافتراضية» إلى البطولات الأوروبية لا رِجعة فيه وأعتقد أن الآلاف إن لم نَقل المَلايين من التونسيين قد اتّبعوا النَهج نفسه بَحثا عن المُتعة والفُرجة في الكُرة الحَقيقية. ولاشك في أن هذه الظاهرة خَطيرة على كرتنا لكن الجماهير التونسية مُكرهة على ذلك. ما هي الأسباب العَميقة والدوافع البَعيدة لهذه «القَطيعة»؟ قد يقول البعض إنّني من المُتشائمين و»السَودانيين» لكن خِبرتي كلاعب تُخوّل لي التأكيد بصوت على بأن الكرة التونسية تعيش إفلاسا شَاملا وخَرابا كَاملا. فلا الملاعب صَالحة للمُمارسة الكرة ولا الجمعيات تملك اللاعبين «الكِبار» الذين بوسعهم أن يصنعوا الفُرجة ويُحدثوا الفارق مِثلما كان الأمر أيّام زمان. ولن أبالغ في شيء إذا قلت إن مشاهدي المُباريات المحلية في «الفيراج» أومن أمام القناة الوطنية قد يغلبهم النُعاس بسبب الغياب التام للوحات الفنية والأهداف الجميلة فضلا عن ضعف النسق العَام والتقطعات المتكررة والإحتجاجات المُقزّزة على التحكيم وهو أيضا من العناصر التي زادت في تعميق الأزمة بفعل الهفوات الفَادحة والتي أصبحت محلّ تندّر في المجالس. ولكلّ هذا اخترت أن أدير ظهري لمنتوجنا الكروي و»التِرحال» نحو الدوريات الأوروبية «هَربا» من هذا الجحيم وبحثا عن العروض الراقية في العالم المُتحضر والمُتقدّم في الكرة. من المسؤول عن تَضييع الكرة التونسية و»تَهجير» الجماهير الرياضية؟ المَسؤولية مُشتركة ولا يُمكن أبدا أن نقذف الكرة في ملعب جهة بعينها. وأعتقد أن حالة الإفلاس التي تعيشها كرتنا هي نتيجة حتمية للسياسات الفوضوية في الجامعة التونسية لكرة القدم فضلا عن التقصير الفادح للسلطات المَعنية مثل وزارة شؤون الشباب والرياضة. وأنا على يقين بأن العَيب في «القادة» لا في «المَرؤوسين» تماما كما يحدث في التعليم حيث يأخذ المُربي على عاتقه مسؤولية تكوين تلامذته على أسس سليمة أمّا إذا كان رب البيت بالدف ضَاربا فإننا لن ننتظر من الجمعيات واللاعبين غير التَسيّب. ولاشك في أن المُتابعين عن كَثب لبعض رؤساء الأندية التونسية يكتشف منذ الوهلة الأولى الأزمة الخَطيرة التي تُواجهها الكرة التونسية على صعيد التسيير. وقد قدّمت الغَالبية السّاحقة من المسؤولين الحاليين صُورة سيئة عن المسير الرياضي في ظل تصريحاتهم الغَريبة وتصرّفاتهم العَجيبة. وأشعر للأمانة بحزن عميق على «إنقطاع» سُلالة «كِبار» المسؤولين الذين عرفتهم الساحة الكروية أمثال طيّب الذِكر والأثر الهادي النيفر (الرئيس التاريخي للملعب التونسي) وعزوز لصرم (النادي الإفريقي) وحسّان بلخوجة (الترجي الرياضي)... وغيرهم كثير. كلامك مَعقول ويُهيّج فينا الحَنين على الزّمن الجميل لكن ألا تعتقد أن الأمل قائم في غد أفضل؟ أنا أيضا من المُتشبثين بخيط الأمل رغم أنه رقيق ومُهدّد بالتمزّق بين الحين والآخر. وأؤمن بأن الإصلاح مُمكن لكن ليس بالتوجّهات الحالية وبالأسماء المُمسكة الآن بمقاليد الحُكم. والأهمّ من كلّ ذلك أن شُكوكي كبيرة في القدرة على تَغيير العقليات السائدة والمَبنية على تكريس الفَوضى والإعتماد على الحُلول التَرقيعية مع تضخّم الأنا والتوهّم بأننا أفضل من الآخرين في حين أن العَالم من حولنا يتقدّم في الوقت الذي تَسير فيه كُرتنا إلى الخلف. رَغم «مُقاطعتك» للمنتوج المحلي فإنك تَسمع أصداء بُطولتنا وتُتابع سَير كُرتنا ولو ب»نِصف عَين». فماهي قراءتك لمُنافسات الرابطة الأولى؟ لقد قُلت إن عناصر الفرجة في بطولتنا المحلية معدومة أمّا بخصوص التَنافسية فإنّني لاحظت «هُروب» الترجي الرياضي عن بقية خصومه وذلك على كلّ المُستويات الرياضية والإدارية والمادية. ومن غير المُستبعد أن نتحدث مُستقبلا عن «الترجي والبَقية» وهذا ليس ذنب نادي «باب سويقة» الذي اجتهد وقام بعمل كَبير لفرض سيطرته على الصّعيدين المحلي والقاري. وهذا طبعا لا يَعني أن الترجي كامل الأوصاف خاصّة أن بطولتنا المحلية ضَعيفة ولا تُشكل مِقياسا موضوعيا للوقوف على القوّة الحقيقية لأنديتنا وهي تقف على بعد مسافات كبيرة عن المُستويات العَالية والمُنافسات العالمية وقد برزت هذه الحَقيقة للعِيان عند مُشاركة الترجي والمنتخب في مُونديالي الإمارات وروسيا. سَتقول حَتما إنّك بَعيد عن أجواء «البَقلاوة» لكن لا يُساورنا الشك في أن قلبك مُعلّق في مركب النيفر أليس كذلك؟ الملعب التونسي جمعيتي الأم وعائلتي الغَالية. ومن المُستحيل أن نتخلّى عنها مهما كانت الظروف ولا أحد بوسعه أن يمنعنا من الوقوف على بَابها والإلتحام بجماهيرها الوَفية. إن «البقلاوة» مُلك لأحبائها الرَائعين وكافّة لاعبيها السابقين مِمّن أفنوا أعمارهم وضحّوا بأنفسهم لتشريف «المَريول» وقد عاصرت شخصيا أكثر من جيل في الملعب التونسي ولم أبخل بحبّة عرق واحدة دفاعا عن الأزياء الغَالية للجمعية. ونجحنا في فرض كلمة الملعب التونسي بطولةً وكأسا حتى أنّنا بلغنا المحطّة الخِتامية لسباق «الأميرة» التونسية في ثلاث مُناسبات. وبالمُختصر المُفيد تمكّن جيلنا من تدعيم الإرث الكبير الذي صَنعه الأبطال القُدامى وجعلنا الجماهير العَريضة ل «البقلاوة» تفاخر بالإنتماء لهذه القلعة الرياضية الكبيرة. هذا طبعا قبل أن يأتي زمن غَريب عن «الستادستية» المُتألمين للتراجع الرَهيب للجمعية بعد أن كانت من الأرقام الصّعبة في سَاحتنا الكروية. وكُنا نَنتظر أن تُحافظ الجمعية على مكانتها المُتميّزة في البطولة لا أن تلعب من أجل تفادي النزول. ما المَطلوب لتسترجع «البَقلاوة» حَلاوتها وأناقتها؟ أنا من الرافضين للكلام عن الأشخاص ولن أطلق سِهام النقد نحو مسؤول بعينه وإنّما أطالب مثل كلّ «ستاديست» بأن تُراجع الهيئة الحالية برئاسة جلال بن عيسى حِساباتها على صعيد الإستراتيجيات المُتّبعة. وأعتقد أن الحل يكمن في استعادة تقاليدنا التَاريخية والعريقة في تكوين الشبان بشكل يُفيد الفريق الأوّل على المدى المتوسط والبعيد فضلا عن الإستثمار في بَيع بعض اللاعبين بَعد حفظ حقوق الجمعية من الناحيتين الرياضية والمَالية. ومن المُؤسف حقا أن تُهمل «البقلاوة» في نسختها الحالية تقاليدها القديمة وتفتح أبوابها للاعبين من الصِّنف الثاني والثالث فضلا عن استقبال بعض أبنائنا العائدين من الهِجرة العَكسية: أي من أوروبا إلى تونس والحقيقة أن هذه الظاهرة غريبة عنّا كما أن لغة العقل تقول إن الوافدين على باردو من الخارج لا يَملكون مؤهلات عريضة طالما أنهم اختاروا بطولتنا الضّعيفة على البقاء في أوروبا (وكان الملعب التونسي قد انتدب عدة لاعبين مُهاجرين مثل ريان خميس وديسم بن نصر وعصام بن خميس وهيكل الشيخاوي ومروان الميهوبي). من مَوقعك كنجم دولي سَابق ومُتألق كيف تَنظر إلى مُستقبل الفريق الوطني بقيادة الفرنسي «ألان جيراس»؟ ما أعرفه أن «ألان جيراس» كان من اللاعبين اللاّمعين في صُفوف الجيل الذهبي للكرة الفرنسية زمن «ميشال بلاتيني» و»لويس فرنانداز» و»جُون تيغانا»...وغيرهم. أمّا كمدرب فقد كانت مسيرة الرجل عادية إن لم نقل إنها مُتواضعة وقد أشرف «جيراس» على حظوظ عدة منتخبات إفريقية مثل الغابون ومالي والسينغال لكنّه لم يُحقّق مكاسب كبيرة بإستثناء الميدالية البرونزية مع المَاليين في «كَان» 2012. لكن هذا لا يُلغي قدرته على النجاح مع المنتخب الذي يملك عدة عناصر جيّدة مثل الخزري والمساكني والسليتي ويَبقى الحلم الإفريقي مُمكنا رغم كثرة الهنّات.