ككيمياء الكتابة مثلا، وموسيقى الشعر أو إيقاعه ونشدان لذة المعنى وجدّته وجمال الصورة مع تعبير الشاعر عن قلق الولادة المتأتي من صراع العناصر المنتجة للبيت الشعري كالخيال واللغة البكر وعملية التصفية. تتوالد اللغة و تنمو و قد تتكلس أحيانا لكنها تتجدد بغواية الشعر واحتراق الشاعر لحظة استعداده للتلقي من خلال توقه إلى تحقيق روح المعنى ولذته . ويبدو الشاعر من خلال هذه الشذرات الشعرية باحثا في ماهية الكتابة الشعرية خصوصا، انطلاقا من تقمصه لروح الفكرة أولا أو استحواذها عليه حتى تتشكل بالحروف ألفاظا ومعان وإيقاعات وأحاسيس ( قبل أن تكوني لحما ودما / كنت فكرة ) ص 11. وكأن الشاعر متصوف يُشغِّل بعض ملكاته في التلقي ثم البوح ليصوغ في النهاية بيتا . فالكتابة عنده هي فعل لغوي مختار يقوده تصور ما، هو فكرة الجدة أو القول على غير مثال سابق إذ لا معنى لشعر يكرر نفسه فيقول ما قاله السابقون . وحتى يرتقي الشاعر بشعره إلى مستوى الطرافة أو الجدة عليه أن يسلك دروبا صعبة يؤسسها خيال واسع وقوة إحساس بالمعنى والجدة ( ناوليني كأسا / من تلك الأحرف المعتقة / إنّ النصوص القديمة / كالخمور الشمطاء ) ص 13. وربما تشكلت الحالة الشعرية عنده مادة هلامية وانتهت ماهية، جسدا . ولعل هذا ما يُذكِّر بصناعة الخبز البلدي الذي يبدأ تصورا لنوعه ومادته ورائحته وطعمه وينتهي ماهيّةً متحققة في الواقع عند مستهلك عاشق لهذا الخبز لما له من رائحة أسسها ذلك المزج الكيميائي لعدة عناصر مع روح التتبيل ونفس الصانع . إنها بحث في معتق اللفظ وتاريخية اللغة وثقلها الدلالي ( أقاتل أفكارا ما لها عدد/ وسيفي في يدي يقطر دما ) ص 15 في علاقة مع الهوية الشعرية للشعر العربي وصراع لا يكاد ينتهي من أجل الفوز بالجميل والخارق والجديد والمبتكر من القول الشعري. يتجول الشاعر في رحاب المعنى وفي مدى جغرافية الخيَال ممتلئا بالحسّ الشعري وحب المتصوفة لله سعيا إلى امتلاك الحقيقة أو رماد المعرفة . أليس الشاعر نصف إلاه وخالق معنى ومبتكر صورة ؟ . أليس خيالا مجنّحا يصوغ فكرة لا يصيبها البلى . يتبدى لنا، هذا القسم بحثا في ماهية الكتابة الشعرية وحفرا في وجدان الشاعر قبل الكتابة أي تلك الجدلية القائمة والتي يترجمها تشكل النص الشعري في ذهن الشاعر فكرة أولية . ولعل هذه المرحلة هي مرحلة الحمل وأعراضه عند الشاعر أو لنقل الامتلاء بحالات الشعر (عصرتني حتى النخاع / شربتني حتى الثمالة) ص 15 . مما يعني أن نجاح القصيدة يتأتى أولا من نجاح اصطياد الفكرة والامتلاء بها مع ما تحتاجه من ابتكار للصورة التي تصوغ الفكرة وتجسدها، مما يعني أن يعيش الشاعر حالة الإحساس والحمل والوعي بعوالم الشعر قبل أن يكتب. ومن خلال هذه الرؤية يكون الشعر معاناة وصراعا تليها مرحلة تشكل هذا الإحساس شعريا. أي تكون القصيدة في أول الأمر كينونة بين الوضوح والغموض والحضور والغياب والظهور والاختفاء. (خطبت لنفسي الأفكار كلها / إلا فكرة لم أجد لها / هر المناسب) ص 28.