طالعت أخيرا مقال الأستاذ المتميّز عبد اللّه الأحمدي بجريدة «الشروق» حول هذا الموضوع والذي تناول فيه مفهوم مبدأ دولة القانون ومظاهره وتساءل هل لهذا لامفهوم مكانة في دستور جانفي 2014؟ وأتت تحاليل الأستاذ كالعادة علمية وموضوعية نظرا لما يمتاز به من قدرة وخبرة. ومحاولة مني في إثراء الموضوع وبعيدا عن النواحي القانونية فإني سأتناوله كمواطن عادي ومناضل دستوري عايش أطوار بناء الدولة الحديثة والمحاولات المتتالية لتأسيس الدولة الوطنية وحماية المواطن من الظلم وتحقيق العدل والمساواة عبر دستور يضمن الحقوق والواجبات. لقد كان مطلب الشعب التونسي قبل الاستقلال ومنذ عهد العائلة الحسينية ثمّ الحماية الفرنسية يتمحور حول المطالبة بسنّ دستور للبلاد. وكانت بلادنا من أوائل الدول التي قامت بإصدار دستور في 1869 وإن كان في حقيقة الأمر استجابة لضغوطات الدول الأجنبية حماية لجالياتها. ومع ظهور الحركة الإصلاحية التونسية ثم تأسيس الأحزاب وخاصة منها الحزب الحر الدستوري التونسي كان مطلبها الأساسي هو سنّ دستور للبلاد. ودائما ودعما لهذا التوجه خرج التونسيون في مظاهرات كبرى يومي 8 و9 أفريل 1938 مطالبين ببرلمان تونسي واشتهد العشرات وجرح المئات. وبعد كفاح مرير ضد المستعمر تحقق الاستقلال وتمّ انتخاب مجلس تأسيسي سنّ دستور متطور حسب آراء كل خبراء القانون من الداخل أو الخارج مكن البلاد من الدخول في عصر المدنية والحداثة حيث أكد الفصل الخامس من دستور غرّة جوان 1959 المنقّح بالقانون الدستوري عدد 51 لسمنة 2002 المؤرخ في غرة جوان 2002 على أنه «تقوم الجمهورية التونسية على مبادئ دولة القانون والتعددية وتعمل من أجل كرامة الانسان وتنمية شخصيته». ورغم ما واجهته دولة الاستقلال بزعامة الرئيس الحبيب بورقيبة من صعوبات جرّاء مخلفات الاستعمار وحتى بعد 07 نوفمبر 1987 فإن الدستور والنظام حاولا الدفاع عن الدولة الوطنية بتركيز مؤسسات دستورية وأجهزة قوية قادرة على فرض القانون واحترام الحقوق والواجبات مما مكّن من تحقيق إصلاحيات وإنجازات تؤكدها كل الأرقام والمعطيات ولا سبيل لإنكارها مهما حاول الحاقدون والمغرضون والجاحدون. ويتشدّق البعض من أن الدولة ضد الديمقراطية وهي تفسيرات المجموعات التي تعمل على إضعاف الدولة الوطنية على حساب الجمعيات والمنظمات والهيئات التي سنتعرّض الى دورها لاحقا. وتباعا لذلك ومنذ شهور ما يسمّى بالربيع العربي والثورات الاصطناعية ومخطط (سايس بيكو الجديد) عملت هذه الأطراف مجتمعة وبتوجيه من القوى الخارجية على ضرب الدولة الوطنية في العمق بتفكيك المؤسسات الدستورية والسلط للحطّ من هيبة الدولة كما حصل عندنا بعد 14 جانفي 2011 حيث تمّ انتخاب مجلس تأسيسي في ظروف معروفة وبأغلبية مختارة لتمرير قوانين جائرة مزّقت أوصال الدولة الوطنية وجعلتها في قبضة أغلبية بمجلس نواب عرف السياحة الحزبية والخصام والعراك وتبادل العنف والكلام البذيء والذي بثّ عبر وسائل الاعلام المحلية والأجنبية محتمين بحصانة برلمانية تبيج كل المحرّمات، وفرضت هيئات قيل إنها دستورية ساهمت في مزيد التفتّت والتشتيت وإضعاف الدولة وقع انتخابها أو اختيارها حسب أهواء وغايات بعض المجموعات في المجلس وما صاحب هذه العمليات من تجاوزات ونقاشات واتهامات. ودستور جانفي 2014 الذي وصفه أصحابه بأنه أحسن دستور أخرج للناس لم يشر في فصوله الي دولة القانون والمؤسسات بل أشار الى عُلويّة القانون وهو مفهوم عام لا يإدي المعنى المطلوب. وقد مكّنت السلطة الحالية دائما وبتوجيه من القوى الخارجية مكوّنات ما يسمّى بالمجتمع المدني من جمعيات ومنظمات من دعم مادي وأدبي وسهّلت لها لها الانخراط في منظمات وجمعيات دولية مرتبطة بمراكز نفوذ خارجية تعمل دائما لتحقيق غايات وأهداف ترمي من ورائها السيطرة علي مفاصل الدولة وإخضاعها لإرادتها وسلبها سيادتها وهيبتها. واستندت هذه المكوّنات الى وسائل إعلامية ظهرت فجأة كالفقاقيع وتعمل بكل حرية بعياد عن كل مراقبة واحترام للمبادئ الصحفية ودون التزام للقضايا الوطنية واحترام للملتقّي من مشاهد أو قارئ أو مستمع. كل هذه المعطايت مجتمعة سهّلت حصول المؤامرات والاضطرابات والاضرابات والاحتجاجات والعنف والإرهاب والفساد والتسيّب بتونس بعد 14 جانفي 2011 وإن ما عاشته وشاهدته أخيرا في سيدي بوزيد موطن المقاومين والمناضلين والأحرار الصادقين من مشاهد التعدّي على الحريات والأخلاق من طرف مجموعة من المنحرفين تحت غطاء المجتمع المدني وبعض الأحزاب المدافعة عن منظومة الخراب والمعروفة بضلوعها في العنف والإرهاب لهو أكبر دليل علي فشل مرحلة الانتقال «اللاديمقراطي» وضرورة مراجعة الدستور وبناء أسس الجمهورية الثالثة.