مشهد سياسي غامض وتقلبات داخل الأحزاب وتحركات ومناورات هنا وهناك وسياحة حزبية وبرلمانية. مظاهر عديدة أدخلت اللخبطة والضبابية على ذهن المواطن حول الشأن السياسي وخاصة حول خياراته في الانتخابات القادمة. تونس الشروق: في انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011، وبدرجة أقل في انتخابات 2014، كانت «الرؤية السياسية» في البلاد واضحة نسبيا للمواطن: أحزاب قائمة بشخصيات سياسية معروفة وبمواقف وأفكار ثابتة وبخط سياسي واضح لكل حزب. اليوم، قبل بضعة أشهر من انتخابات 2019، تكاد هذه الصورة تختفي تماما: مشهد حزبي متعدد ( 218 حزبا) يسوده الغموض والضبابية وأحزاب تشقها مشاكل داخلية مختلفة وصراعات غامضة في ما بينها فضلا على الظاهرة الابرز وهي عدم ثبات بعض المكونات البارزة لتلك الاحزاب في مكان واحد وعلى موقف واحد بفعل انتشار ظاهرة «السياحة الحزبية والبرلمانية».. كل ذلك تسبب في عزوف عديد التونسيين عن الاهتمام بالشأن السياسي فتراجع الانخراط في الاحزاب وتقلص الحضور في الاجتماعات الشعبية التي يعقدها بعض الشخصيات الحزبية وتراجعت نسب مشاهدة ومتابعة البرامج والاخبار السياسية في وسائل الاعلام. غير ان الخطر الأبرز أصبح يُهدد الانتخابات القادمة وذلك من حيث نسبة الاقبال المنتظرة يوم التصويت. وهو مقياس أساسي لانجاح أي انتخابات. تعددية وحرية .. لكن رغم ان منظومة ما بعد 2011 فسحت المجال واسعا أمام التعددية السياسية والحزبية وأمام حرية التعبير والمشاركة في الشأن العام باعتبارها من ركائز الديمقراطية، وهو ما تم تأكيده في دستور 2014، إلا أن ذلك لم ينعكس على أرض الواقع. ويقول المختصون إن هذا الوضع الجديد كان من المفروض ان يؤدي إلى تطوير الحياة السياسية وتطوير عمل الاحزاب شكلا ومضمونا قصد استقطاب الناس ودفهم الى الاهتمام بالشأن السياسي غير ان ذلك لم يحصل بعد أن عمّت «الفوضى» الحزبية والسياسية على عدة مستويات. وبقي المواطن يتعامل مع الشأن السياسي والحزبي بحذر وبانكماش رغم وفرة العرض الحزبي ورغم مناخ الحرية، أما الأسباب فهي عديدة. التحالف والتوافق على مستوى السلطة برزت اثر انتخابات 2011 ظاهرة «التحالف» التي جسّمتها حكومة الترويكا. واثر انتخابات 2014 برزت ظاهرة «التوافق» بين الاحزاب في السلطة. فكانت البداية مع ائتلاف رباعي ثم مع حكومة وحدة وطنية سنة 2016. وفي خضم كل ذلك كان التوافق الأبرز بين حزبي النهضة ونداء تونس لافتا للانتباه خاصة بعد أن مر بتقلبات عديدة مازالت متواصلة إلى اليوم دون ان يفهم المواطن حقيقته. كما ظهر ايضا ما يعرف ب»الاندماج» أو «الانصهار» بين الأحزاب. وهو ما زاد في ادخال اللخبطة والغموض في ذهن المواطن. وقد تزامن كل ذلك مع عدم تحقيق الوعود الانتخابية بالنسبة للأحزاب التي بلغت السلطة بسبب عدم واقعية تلك الوعود وأيضا بسبب انشغال السياسيين والاحزاب بمسائل أخرى بعيدة كل البعد عن العمل السياسي والحزبي الحقيقي الذي يتكرس من خلال الاقتراب من المواطن ومن الجهات والاهتمام بالمشاغل. سياحة سياسية انضافت الى كل ذلك ظاهرتا «السياحة الحزبية» و»السياحة البرلمانية». حيث أصبحت عديد الوجوه الحزبية المعروفة تتنقل من حزب إلى آخر ومن كتلة برلمانية إلى أخرى. وانخرطت في هذا التوجه وجوه سياسية عُرفت تاريخيا بارتباطها بلون حزبي مُعيّن وبفكر سياسي معروف فإذا بها تُغيّر بين عشية وضحاها انتماءها إلى لون آخر وهو ما أدخل أيضا الغموض واللخبطة على المواطن .. وعلى مستوى الشأن الداخلي للأحزاب، برزت أيضا ظاهرة الصراعات الداخلية التي عادة ما تنتهي ببروز انشقاقات بين مكونات الحزب الواحد. وبلغ مداها المؤتمرات الانتخابية للاحزاب.. لخبطة في ذهن المواطن هذه المظاهر وغيرها أدخلت لخبطة كبرى في ذهن المواطن خصوصا على مستوى الفهم السياسي لما يجري فأصبح غير قادر على معرفة من يحكم البلاد بصفة فعلية ومن هو الطرف السياسي والحزبي الذي يمثله على المستوى الفكري ومن حيث تحقيق انتظاراته وهو ما جعله عاجزا عن تحديد الخيار الأمثل ليوم التصويت ( أي للطرف الذي سيصوت لفائدته) . فما يجري على الساحة السياسية والحزبية أصبح عصيّا عن فهم المواطن وأيضا عن فهم المتابعين للشأن السياسي خاصة فهم المغزى والغاية من تحركات بعض السياسيين الذين دأبوا على المناورة وعلى عدم الوضوح والذين تظهر عليهم في أحيان أخرى الانتهازية والرغبة الجامحة في بلوغ كراسي السلطة على حساب العمل السياسي والحزبي السليم. ثقة وعزوف كل ذلك جعل المواطن يفقد الثقة في عديد السياسيين وفي عديد الأحزاب فأصبح غير مبال بالانخراط في العمل الحزبي. ولا يهتم بالشأن السياسي العام ولا يتابع المادة الاعلامية السياسية. وبلغ الأمر بكثيرين حدّ عدم التسجيل في سجل الناخبين رغم الدعوات المتكررة من هيئة الانتخابات ورغم كل التسهيلات التي تم وضعها للتسجيل. كما بلغ الأمر أيضا حدّ عدم التوجه يوم التصويت الى مراكز الاقتراع. وهو ما حصل في الانتخابات البلدية الأخيرة وبدرجة أقل في انتخابات 2014. ومن المنتظر أن تتفاقم نسبة مقاطعة التصويت في الانتخابات القادمة. وهذا أخطر شيء يُهدد الديمقراطية لان ضعف نسبة التصويت يعني ضعف المشاركة الشعبية وبالتالي ضعف مشروعية السلطة التي سيقع انتخابها ( ضعف التمثيلية الشعبية). فوضى حزبية وسياسية .. ومخاطر بالجملة من أبرز مظاهر الفوضى على الساحة السياسية: السياحة الحزبية والبرلمانية - انحدار مستوى الخطاب السياسي- الصراعات والشقوق داخل الاحزاب - عدم تحقيق الوعود السابقة بالنسبة لمن بلغوا السلطة- التوافقات والتحالفات الهشة والمشبوهة القائمة على مصالح حزبية وسياسية ضيقة بعيدا عن المشاغل الحقيقية للمواطن – عدم وجود برامج حزبية وأفكار قادرة على استقطاب الناس.. وتؤدي هذه الفوضى الى مخاطر عديدة ابرزها: عزوف المواطن عن المشاركة في الحياة السياسية وعن الانخراط في الاحزاب - العزوف عن المشاركة في الانتخابات وهو ما يهدد التجربة الديمقراطية – هذا العزوف قد يسمح بانفراد بعض الاطراف السياسية بالشان العام وبعودة نظام الحزب الواحد والحكم الواحد..