اثارت شخصية هارون الرشيد جدلا كبيرا، واختلف المصنفون ورواة الاثار من النقيض الى النقيض حول حقيقة سيرته . وغالى البعض وخاصة من المستشرقين الغربيين ومن تأثر بهم أو سار على دربهم في نحت صورة خيالية مرسومة في اذهانهم ومقتبسة مما يروج في قصور وبلاطات الملوك والاباطرة الاوروبيين ، فالبسوها لبوسا مماثلا فظهرت لنا شخصية غريبة عن اطارها الزماني والمكاني والحضاري . وفي مقابل ذلك انصرف البعض ممن اخذتهم الحماسة والغيرة الزائدة على تراث الاجداد الى الاشتغال على رسم صورة نقية للرشيد فاخفوا عيوبه وهي كثيرة وبالغوا في وصف مناقبه مما ادى الى الوقوع في نفس خطأ المستشرقين في عدم الحياد العلمي والالتزام بالامانة التاريخية . ومهما يكن الموقف من هارون الرشيد فقد اعتبره جميع من تناول سيرته بانه كان أشهر الخلفاء على الاطلاق، وأكثرهم ذكرا على مر الزمان ، بل اننا نجد اثر ذلك حتى في المصادر الأجنبية كالحوليات الألمانية في عهد الإمبراطور شارلمان التي ذكرته باسم (ارون)، والحوليات اليابانية والصينية التي ذكرته باسم (الون). لذلك كله ارتأينا ان نقوم بمحاولة لاجلاء بعض الحقيقة واستكشاف الصورة الاقرب الى الواقع بعيدا عن التأثر بالنوازع المختلفة وانطلاقا من عدد من المؤلفات الجادة والوثائق الموثوقة . قبل ان نشرع في تناول سيرة هارون الرشيد وتتبع الروايات وتمييز صحيحها من سقيمها يجدر بنا اعطاء لمحة وجيزة عن عصره والظروف التي طبعت شخصيته ، وهو ما يحيلنا الى الانقلاب الذي حصل في دولة الخلافة الاسلامية بظهور الدولة العباسية وانتصارها على دولة بني امية ، فحين بويع ابو العباس السفاح بالخلافة سنة 132 ه الموافق لسنة 750 ميلادي رفع شعار العدل وارجاع الحقوق الى اصحابها واعلاء شأن الدين واهله. لكن هذه الشعارات لم تعمر طويلا ، اذ سرعان ما انقلبت سيرة بني العباس فاعملوا السيوف في العامة والخاصة وغدروا حتى باقرب مناصريهم لمجرد الشك والشبهة . وكان الانتقام مبدأ شاملا والتنكيل بالمنافسين سنة مشروعة ولم يكن ذلك حادثا طارئا بل سياسة ممنهجة . اعتمدها العباسيون في التخلص من رفاق الدرب بعد انتهاء المهمة والوصول الى المبتغى ، كما كان من امر ابي سلمة حفص ابن سليمان الخلال الذي كان يقال له وزير ال محمد ، فقد تم سقوط الدولة الاموية بجهوده التي ماثلت جهود ابي مسلم الخرساني ، وكان فيه فصاحة ولين جذبا اليه النفوس ، فبيتوا له الشر واغروا به ابا مسلم الذي ارسل له احد اعوانه فاغتاله غدرا وبعد ذلك تم التنكيل باهله وجنوده بعد ان كان لهم نصيب الاسد في نصرة بني العباس . ثم انتقلت الدسائس الى قائد اخر من القواد البارزين وهو سليمان بن كثير فاتهموه بما اتهموا به سليمان الخلال واغروا به ابا مسلم فسارع الى قتله وكان مراده ان يزيح احد القادة الاقوياء حتى يخلو الجو له .