للخطاب قصة وللقصة معنى وللمعنى مغزى وللمغزى مرمى وهو أيضا فضاء يعكس مختلف الأفكار التي تخالج صدور تلك التيارات الفكرية التي عرفتها بلادي منذ القرون الوسطى إلى حد الآن. وللخطاب السياسي حركة ومنطق وتاريخ ولكن ما يهمنا فيه هو العقل الكامن والتاريخ المتواري والفكر المبثوث في استجلاء عمق المعنى وحقيقة الدلالات المستترة وهو المدخل الحقيقي والسليم والعلمي للإحاطة بالخطاب السياسي. حينئذ الخطاب يعكس تطور الإنسان والمجتمع والوجود وهو أيضا مؤشر لقيس التوترات التي تعرفها البلاد وذلك بدليل التلازم بين الخطاب من ناحية ومناسبته من ناحية أخرى. وللخطاب السياسي أهمية متفاوتة في درجات الإقناع والتأثير على الملتقى وذلك بتفاوت أهمية الحدث أو الأحداث التي جرت هنا أو هناك (فاجعة السبالة بسيدي بوزيد) وفي هذا الاتجاه نستحضر منظومة ابن خلدون والخطاب عنده. فالمعرفة عند ابن خلدون ليست تنظرا فقط بل هي رصد واستقصاء. حيث وصف العلامة في كتابه «المقدمة» البدو بالتخلي عن الفن والصناعة ولكنه تدارك هذه السلبيات فيما بعد ليؤكد على متانة خلقهم وسلامة فطرتهم والابتعاد عن الترف والابتذال والتسفل وهو ما حدى بالبعض بوصف هذا المنهج الخلدوني بمنهج الواقعية مخالف بذلك مفكري زمانه وذلك باعتباره عايش البدو والحضر في الوقت نفسه حيث عايش الملوك والأمراء كما عاش مع الفقراء والمهمشين. والواقعية يجب أن تكون حاضرة في الخطاب السياسي الحالي بل لا بد من الحرص على وضعها وتبجيلها كعنصر رئيس لا يمكن الاستغناء عنه لفهم الواقع الحالي المرير بواقعية جاهدة حاضرة وبحرية مسؤولة تنطلق من الواقع كما هو لا كما يجب أن يكون. وعلى هذا الأساس يمكن ملاحظة وبيسر غياب الواقعية في الخطاب السياسي للحكومات التي تعاقبت على بلادي بل وكذلك الرؤساء أيضا. بعد 14 جانفي 2011 وحتى اليوم بل نجد في الخطاب السياسي وعلى الرغم من كثرة المستشارين بل المشاورين. وهم من المقربين المناصرين المقلدين وليسوا بالمفكرين الباحثين وهؤلاء يسايرون من يشاورهم ويجاملونه طمعا في نيل مرتبة أو رشوة وإذا لم ينالوها قاموا بمهاجمته بل ويصل الأمر إلى خروجهم عنه عنوة أو تسترا وهو ما يساهم في اتساع الهوة بين السلطة والشعب. وهذا من شأنه أن يجعل التمشي الديمقراطي الذي نصبوا له في خطر حقيقي وعندها يصبح الخطاب السيسي متعثرا يسير عكس ما هو مرجو منه من انتظارات وتطلعات وحلول حيث أن الديمقراطية هي تلك العلاقة بين النص القانوني والواقع أي بمعنى لاتوجد هوة بينهما وكلما تقلصت هذه الهوة إلا وتقدمنا درجة على سلم الديمقراطية بالطبع صاعدين إلى الأعلى ولذلك توصف الدول والشعوب بالأكثر ديمقراطية من غيرها. ويمكن القول إن الواقعية غائبة أو مغيبة في القضايا الجوهرية في تونس بعد الثورة. ولذلك لم تستطع كل الخطابات السياسية وبدون استثناء تغيير الواقع نظرا لعدم اتصافها بالواقعية.