التاريخ كما هو معلوم ليس مجرد تراكمات قصص وأحداث ووقائع جامدة وقراءته ليس الغرض منها تنويم العقل بنتائج قد يكون نصيب الزيف فيها أكثر بكثير من نصيب الحقيقة بل هو مخزون وثائقي جامع للسلبيات والإيجابيات على حد سواء وذلك للإتعاض منه واستخلاص النتائج والدروس للوقاية في المستقبل من الهزات والمطبات وإذا أردنا أخذ العبرة من التاريخ وجب وضعه على المحك العقلي من اهل الخبرة والاختصاص وشأنهم في ذلك شأن الناقد البصير تمييز الغث من السمين بمسبار النظر في الأحداث التاريخية المعروضة عليه نقدا وتمحيصا ضرورة أن قراءة التاريخ جعلت للفهم والتدبر والانطلاق إلى الأمام وليس الرجوع القهقرى الى الوراء كما تريد بعض قوى الجذب إلى الخلف بسبب خلل ثقافي مرضي. ولمحاكمة التاريخ صور عديدة منها السياسي ومنها الإجتماعي ومنها الإقتصادي لكن المحاكمة السياسية هي الأهم بدعوى أنها مؤثرة على غيرها لخطورتها وتأثيرها على بقية الميادين وهذا غير صحيح فكم من مرة كانت السياسة ضحية غيرها من المجالات والأمثلة كثيرة. والمساءلة السياسية ولا أريد قول المحاكمة ليست حديثة بل ضاربة في التاريخ. فبالنسبة للمسلمين مثلا، انطلقت منذ زمن الخلافة مرورا بالعهد الأموي وانتهاء بزوال الخلافة العباسية في 656 هجري ويؤكد التاريخ أن معظم الاغتيالات كانت لغرض سياسي واضح وفي سبيل التنافس والتحاسد على الحكم حيث ضاعت صلة القرابة تحت أقدام السلطة المتوحشة لدرجة أن يقتل الأب إبنه ويتآمر الأخ على أخيه حتى أن الأم تسمم ابنها. ألم يقتل عدد كبير من الصحابة والتابعين ورجال الدولة في زحمة التنافس على السلطة، ومقتل الخلفاء عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي إبن أبي طالب خير دليل على الفتن السياسية في التاريخ الإسلامي منذ بواكير الخلافة وحتى أبو بكر الصديق مات مسموما. وفتنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان، المعبر عنها بالفتنة الكبرى، تلتها اضطرابات وقلاقل كانت سببا في انشغال المسلمين بقتل بعضهم البعض بلا هوادة وانتهى الأمر بقتل علي بن أبي طالب وهو زوج فاطمة الزهراء قرة عين الرسول الأعظم ووالد الحسن والحسين. ولقد تباينت الآراء حول هذه المسألة منذ ذلك التاريخ فمن المسلمين من بررها حفاظا على كينونة الدولة واستقرارها ومنهم من رأى بعدم جواز إراقة الدماء بغير حق عملا بأقوال الرسول الأكرم في أكثر من حديث ومن ذلك «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما». ولا مراء في أن قراءة التاريخ ليست بالسهولة، فهي متلبسة وغاية في التعقيد يختلط فيها الواقعي الواضح بالروائي السردي المبهم وجمال التاريخ يكمن في البحث عن الحقائق كما هي بدون زينة ولا تغيير وقراءة الذاكرة الجمعية تقتضي غربلة التاريخ وإزالة الشوائب عنه ويكون ذلك في إطار بحث علمي معمق. وهنا أعود لمحاكمة العصر في تونس ألا وهي محاكمة الزعيم الحبيب بورقيبة ومن شاركه في إغتيال الزعيم صالح بن يوسف الحاصل في 12 أوت 1961 بألمانيا. لا غرو أنه بعد الثورة تصاعدت حرارة «الطائفية السياسية» وظهرت الرغبة الملحة في محاكمة شخوص التاريخ بآلية العدالة الإنتقالية والتي كانت إنتقائية وتم إعداد العدة لها بالتعبئة والتجييش والمسألة نازعتها عديد الآراء بين رافض وقابل و في الأخير حطت القضايا الرحال عند القضاء العدلي. وهنا أريد أن أسوق بعض الملاحظات ولا أقول أسئلة، وليس من باب تبرير الجريمة، بل من باب إثارة بعض المسائل الإجرائية الجوهرية التي لا تستقيم بدونها المحاكمة القضائية خاصة عندما نريدها أن تكون عادلة: أليس الموضوع عقيما ومستهلكا وتنتفي فيه مصلحة إثارة الدعوى خاصة وأن هناك من يقول بأن بورقيبة اعترف بالواقعة وبررها في الإبان بضرورة وأد الفتنة التي كانت مشتعلة زمنها؟ كيف يقبل القضاء دعوى جزائية في القتل العمد والمشاركة فى ذلك دون تحقيق بأدوات قضائية تتوفر فيها الضمانات القانونية والحال أن الطور التحقيقي ضروري في مادة الجنايات والتعهد بالقضية بمجرد بحث أولي أنجزته الهيئة، بغض النظر عن سلامته من عدمه، يكون دون المأمول؟ كيف يقع الدوس على الإجراءات الأساسية للخصومة الجزائية وخصوصا مبدأ إنقراض الدعوى العمومية بموجب الوفاة ومبدأ عدم رجعية القانون الجزائي هذا بصرف النظر عن مبدإ إقليمية الجريمة الحاصلة بألمانيا والنتائج القانونية المترتبة على ذلك من حيث الإختصاص؟ أليس من المبادئ الأصولية العامة أن تتوفر في المحاكمة المواجهة بين الخصوم مع توفير حق الدفاع بكل الوسائل المتاحة من سماع الشهود كسماع كل من ترى المحكمة فائدة في سماعه وتشخيص الجريمة وإجراء المكافحات والاختبارات وغيرها من الإجراءات اللازمة الكفيلة بإنارة العدالة وإظهار الحقيقة في أبهى صورها؟ أليست الحقيقة القضائية قل وندر أن تكون متطابقة مع الحقيقة الواقعية خاصة وأن المتهم بإمكانه دفع التهمة عنه بجميع الوسائل وخصوصا منها الحق في الكذب؟ أليست هذه الدعوى القضائية مجرد محاكمة إنشائية عاطفية كان أحرى أن يكون إطارها خارج القضاء العدلي خاصة وأن نجل الزعيم صالح بن يوسف كان واضحا وصريحا في أن العائلة تريد «فقط» رد الإعتبار لوالده ودوره في الحركة الوطنية من أجل إعادة كتابة التاريخ والاعتذار الرسمي من أجهزة الدولة وإلغاء الأحكام المجحفة الصادرة ضد والده في سنتي 19571958؟ أليس من حق آل بورقيبة وكل من له مصلحة في ذلك محاكمة الزعيم صالح بن يوسف باعتباره إستقوى بجهات أجنبية منها جمال عبد الناصر وبن بلة محاكمة معنوية وكذلك من أجل اتهامه لبورقيبة بخيانة البلاد والتخطيط لخيانة الثورة الجزائرية، هذا بصرف النظر عن كونه اعتبر زمنها الإستقلال الداخلي خطوة إلى الوراء الشيء الذي أحدث فتنة وكذبه التاريخ، كل ذلك في إطار المساواة أمام العدالة ولو أن المعنيين بالقضية موجودون تحت الأرض ينتظرون يوم العرض أمام العدالة الربانية؟ وانتهي بالسؤال التالي: هل حاكمت ألمانيا هتلر بالرغم من الويلات التي تسبب فيها لها وللعالم بأسره؟ لا طبعا، والمحكمة العسكرية الدولية بنورنبرغ ذاتها لم تحاكمه لأنه كان في عداد الأموات... عقولهم وعقولنا!!! رئيس دائرة جنائية بمحكمة الإستئناف بتونس