أصبح الرئيس الباجي قايد السبسي كثير التطرّق إلى مسألة خروج الرئيس من الحكم وكأنه يبحث لنفسه عن مخرج مشرّف.. أو أن هاجس الخروج من كرسي الرئاسة لينحت له مكانا شامخا في التاريخ إلى جانب زعيمه وملهمه وقدوته الراحل الحبيب بورقيبة بات يؤرقه ويدفعه دفعا إلى البحث والتنقيب عساه يظفر بالسبيل أو بالطريقة أو بالمكسب الذي يؤمن له تحقيق هذه الأمنية الغالية على نفسه. لكن في السياسة الأمور لا تدار بالأمنيات والخواتيم هي دوما محكومة بالمقدمات فماذا قدّم الباجي في فترة رئاسته؟ وهل وفّر كل ما يلزم لخروج مشرف يجعله يدخل التاريخ من بابه الكبير؟ وهل كان في مستوى ثقة والتفاف الندائيين وأطياف واسعة من الشعب التونسي رأته في فترة خوف وقلق خليفة الزعيم ومنقذ إصلاحاته وإنجازاته التي مازالت البلاد تعيش على وقعها وتتنفس بواسطتها من قبيل تحرير المرأة وتعميم التعليم وتأمين الصحة للجميع؟ سوف يكون من الصعب التطرّق إلى كل التفاصيل التي شهدتها فترة حكمه.. لكننا سوف نكتفي بالتوقف عند بعض المفاصل الكبرى التي توفر أدوات للتقييم وللحكم على رئاسة الباجي أولها. بداية قصة الباجي مع الشعب التونسي بدأت عند خروجه من رئاسة الحكومة التي تولاها إثر سقوط النظام السابق. فقد رفع وقتها شعارات ولافتات وعناوين جعلت أطيافا كبيرة من الشعب تنتبه إليه كما أعلن أهدافا وخاض معارك مع الإسلام السياسي الذي كان وقتها وفي إطار حكم الترويكا يمثل أكبر تهديد لطبيعة الدولة وطابعها الحداثي ما جعل الكثير من الروافد ومن شرائح الشعب التونسي ترى فيه المنقذ من الضياع وجدار الصد الأول الذي سيقف في وجه هذا التيار الظلامي ويوقف تهديده لطبيعة الدولة والمجتمع... على هذا الأساس انتخبه الشعب وصعد به إلى كرسي الرئاسة بعد تعبئة تلقائية خاضها أكثر من مليون من حرائر تونس اللائي كن خائفات على مكاسبهن ورأين فيه أمل الخلاص من كل التهديدات... لكن وبمجرّد صعوده إلى الحكم انقلب الباجي على الباجي إما تخوفا على استقرار البلاد وإما ترويضا للإسلاميين أو خضوعا لضغوط أو ل«نصائح» خارجية وكانت تلك «الخيانة الكبرى» التي جعلت رصيده يتآكل وجعلت مكانته تبدأ في الترنح. *** ترنح سرعان ما ضرب في المحيط القريب للرئيس لتبدأ رحلة قفز فيلة النداء وأقرب أعضاد الرئيس من المركبة التي بدأت تتقاذفها أمواج عاتية. قفز محسن مرزوق وقفز رضا بلحاج وقفز سليم العزابي وقفزت سلمى اللومي وفوق هذا ساءت علاقته مع رئيس الحكومة الذي أخرجه من جلبابه ورشحه للمنصب قبل أن ينقلب عليه.. ما جعله هو الآخر يقلب الطاولة ويعلن «العصيان الحزبي» على رئيسه وينسج شبكة علاقات مع أحزاب وتكتلات منافسة للنداء لحماية نفسه وتدعيم مكانته في السلطة. مع هذه الاهتزازات الكبرى كان النداء هو الجهة التي تنعكس عليها الأضرار المباشرة والجانبية حيث ظل الحزب يتشظى ويخسر من كتلة نوابه ومن رصيد مناضليه ومناضلاته الذين التحقوا أفواجا أفواجا بأحزاب منافسة. كل ذلك بسبب الاصطفاف الكامل للرئيس إلى جانب نجله حافظ الذي يمسك بإدارة دفة الحزب ويصرّ على التحكم في كامل مفاصل القرار فيه بشكل دفع قياديين كثر للتمرد عليه وهو ما انتهى إلى شطر الحزب إلى شق المنستير وشق الحمامات بعد أن كان قد تشظى لتخرج من رحمه أحزاب من قبيل مشروع تونس وتحيا تونس علاوة على التحاق الكثير من مناضليه بالحزب الدستوري الحر وبالبديل مثلا. في كل محطات ومراحل تشظي النداء كان رجاء ندائيين كثر قائما على الباجي عساه يركز على موطن الداء.. ويعالج عقدة تحكم نجله في الحزب بشكل يؤمن له موقعا ما داخل الحزب وينزع فتيل الأزمة المستعصية التي تضرب الحزب والتي كان هو عنوانها الأكبر وحتى الأوحد. لكن الباجي الذي ظل يقصف الطبقة السياسية في سياق مناكفاته التي لا تتوقف بمقولة أن الوطن والدولة فوق الأحزاب وفوق الأشخاص انحاز إلى ابنه وكرسيه فوق مصلحة الدولة والوطن.. وهو يرى الحزب يتفتت وكتلته البرلمانية تتراجع ومكانته في الحكم تتقهقر إلى مرتبة ثانوية جدا مع أنه الفائز في الانتخابات ومع أنه نظريا يمسك بمفاتيح رئاسة الدولة ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة... وتلك كانت «الخيانة الكبرى» الثانية للرئيس الباجي. *** النزيف لم يتوقف عند هذا الحد، بل إنه طال تقريبا مجمل التعهدات التي قطعها الباجي للشعب.. فقد قال أنا و الإسلام السياسي خطان متوازنان لا يلتقيان.. لكنهما التقيا (وأي لقاء). وتعهد بإعادة العلاقات بسوريا وإصلاح الخطإ الفظيع الذي ارتكبه المؤقت المرزوقي بدعم من حلفائه في الترويكا لكنه نكث وعده ولم يتحرك بالشكل المطلوب ربما خضوعا لضغوط من حلفائه في النهضة نتيجة نظرية التوافق معهم أو نتيجة ضغوط عربية وأمريكية تصر على عزل سوريا وعلى منع عودتها إلى الحضن العربي مع أنها خاضت حربا شرسة باسم العرب وباسم العالم ضد الإرهاب والتشدّد والظلامية.. وتلك كانت «خيانة» أخرى لطيف واسع من الشعب التونسي ومن النخبة السياسية من الأحزاب والحركات القومية بالخصوص الذين باعهم الباجي «وهم» إعادة العلاقات مع سوريا عندما يظفر بكرسي الرئاسة. *** نفس الخطإ يصر الباجي على ارتكابه في علاقة بالشأن الليبي من خلال اصطفافه الواضح إلى جانب السراج في تناقض تام مع مواقفه المعلنة حول حياده في الأزمة الليبية... وكذلك مع مزاج طيف واسع من الشعب التونسي يرى في ميليشيات طرابلس المتحالفة مع السرّاج ضد حفتر «الشيطان الأكبر» الذي يتمنى هزيمته في الحرب. يتواصل السيل مع ملف الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي فقد تعهد المرشّح الباجي بالعمل على كشف حقيقة القتلة ومن يقف وراءهم لكن الاغتيالين ظلا يراوحان في مزاد العلاقة بين الرئيس وحركة النهضة... وظلا خاضعين لمنطق المناكفات والتجاذبات ولدرجة حرارة وبرودة العلاقة بين رئيس الدولة ورئيس حركة النهضة في علاقة بالخصوص بالموقف من رئيس الحكومة. ومع أن الرئيس تحرّك وعقد عدّة لقاءات مع هيئة الدفاع عن الشهيدين خاصة إثر تفجّر قضية الجهاز السري فإن الملف ظل يراوح مكانه وسوف يرحّل هو الآخر إلى مدة رئاسية قادمة هذا على افتراض أن نجد من الجرأة ما يجعلنا نتحرك نحو كشف الحقيقة وإنصاف الشهيدين وعائلتيهما وتخليص البلاد من حمل يلقي بظلال ثقيلة على أمنها واستقرارها... وهذه تعد خيانة أخرى لتعهد واضح قطعه الباجي على نفسه... *** حين تجمّع كل أجزاء الصورة وغيرها من التفاصيل التي لم نأت على ذكرها ندرك لماذا انهار النداء ولماذا «افرنقع» الندائيون ولماذا يقفز مستشارو ومعاونو الرئيس المقربون من المركبة وندرك قبل وبعد هذا لماذا تآكلت مصداقية سياسي كبير شكّل أملا لشرائح كبرى من التونسيين صعدته إلى مكانة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.. وندرك لماذا يبقى الباجي وحيدا وحائرا في سياق البحث لنفسه عن «مخرج آمن» يضمن له مكانا في التاريخ بعد الخروج من كرسي الرئاسة. قد يقول البعض أنه ضعف الأب إزاء فلذة كبده وقد يقول البعض أنها ضغوط العائلة والعائلة كانت دوما عنصرا فاعلا ومحددا في تاريخ رؤساء وتاريخ السياسة في تونس وقد يقول البعض الآخر أنه نهم وانتهازية المحيطين بالرئيس والذين صعدوا في ركابه وباتوا يتطلعون إلى مفاتيح الحزب وبالتالي إلى مفاتيح السلطة، وقد يقول آخرون أنها استحقاقات وضغوط وقيود الحكم. وقد يقول آخرون أنه أنقذ تونس مرتين مرة حين ساهم في كنس الترويكا من الحكم ومرة حين روّض الإسلاميين وأمّن الانتقال السياسي من هزات كانت تبدو مدمرة نتيجة ضعف الأجهزة واهتزاز الأوضاع الأمنية والسياسية عام 2014. وقد يقول آخرون إن يديه لم تكونا طليقتين للإيفاء بتعهداته لأن قوى إقليمية ودولية تضغط بالمال وبالمساعدات وتمارس الابتزاز بالاتكاء على هشاشة وضع البلاد الاقتصادي والأمني والاجتماعي. قد يقال كل هذا وأكثر.. لكن قدر الزعماء الكبار هو أن يرتقوا إلى مستوى التحديات الكبرى في اللحظات السياسية القلقة والحرجة... ولو لم تكن تعقيدات أوضاع الشعوب هي التي تفرّق بين زعيم وزعيم وبين رئيس ورئيس فكيف ستتم المقارنة والمفاضلة وكيف سيكون التقييم والحكم. في السياسة الأمور بخواتيمها... والرئيس الباجي تحرك وكانت أمامه إمكانات وفرص للالتفاف على قيود النظام السياسي وعلى تعقيدات الأوضاع داخليا وإقليميا ودوليا وذلك للتحرك في اتجاه الوفاء بتعهداته للشعب.. فهو المسؤول أولا وأخيرا عن انهيار النداء وعن انهيار ذلك الأمل الكبير للتونسيين والتونسيات. وهو المسؤول عن تسليم المفاتيح لرموز الإسلام السياسي بأن أعطاهم كل السوق في حين كانوا يطمحون إلى الظفر بمحل في السوق.. وهو المسؤول عن الحرائق السياسية ا لتي ضربت محيطه القريب وجعلت كبار معاونيه يقفزون.. ليجد نفسه وحيدا.. يبحث عن مخرج مشرّف قد لا يظفر به لأن السياسة تقاس في الأخير بمنطق الزرع والحصاد والحصاد لا يكون إلا من طبيعة الزرع.