وعن طريق الرسائل المتبادلة نظمت عملية الهروب الجديدة مع (سعدون شاكر)، هذه المرة أرسل له صدام يقول : استطعنا إقناع الجنود بعد عمليات غسيل شاقة ومستمرة وسنضعهم ونحن في طريقنا إلى المحكمة أمام الأمر الواقع وعليك أن تنتظرنا في المكان المحدد واليوم المحدد. وفي ذلك اليوم كانوا في طريقهم إلى المحكمة: صدام حسين وكريم الشيخلي وحسن العامري، واستطاعوا إقناع الجنود بالذهاب اإلى مطعم (الجندول) بشارع أبي نواس لتناول طعام الغداء واتفقوا مع سعدون شاكر أن ينتظرهم بسيارته خارج الباب من جانب المغسل وهو باب عندما يفتح يفضي رأسا إلى الشارع العام وتكون السيارة مفتوحة الأبواب فإذا حاول الجنود المقاومة في آخر لحظة تنتزع منهم بالقوة رشاشاتهم ويتم الهرب. واتفق الثلاثة على أن يهرب في البداية إثنان منهم والثالث يبقى مع الجنود – وكانا إثنين فقط – ويحاول إقناعهما بالاختفاء معا. بعد أن يعدهما بالتكريم عندما تنجح الثورة، فإذا قبلا، تتم عملية الهروب. وإذا لم يقبلا فإنه سيعود معهما إلى السجن ووقع الاختيار على حسن العامري أن يكون الرفيق الثالث. وعندما فتح الباب الخلفي للمطعم باب المغسل كانت سيارة سعدون شاكر واقفة ومفتوحة الأبواب. دخل فيها صدام حسين وكريم الشيخلي بسرعة ، ودار محركها على الفور وانطلقت أما ثالثهم حسن العامري فلقد رفض حارسه فكرة الهروب بشدة وأصر على العودة به إلى السجن مرة أخرى. في شوارع بغداد المكتظة ساعة خروج العاملين من المصالح والدواوين لم يلتفت المارة إلى سيارة «أوبال» صفراء ذات سطح أسود يركبها ثلاثة شبان، إثنان منهما يطاردهما الحكم بالإعدام وهي تقطع المسافات بسرعة هائلة متوجهة صوب بيت منعزل في حي اليرموك ،وهناك تتوقف قليلا ويهبط منها (كريم الشيخلي) ثم تتحرك ثانية بنفس السرعة بعد أن رفض صدام أن يأوي إلى الوكر الجديد مع رفيقه تحسبا من أن يكون مؤشرا من جانب الشرطة، وبعد قليل تتوقف ليهبط منها الرجل الذي قرر أن يواجه مصيره وحده في هذه اللحظة. والآن؟ ماذا عساه يفعل؟ إلى أين يتوجه؟ لابد من البحث عن مكان آخر لا يعرفه أحد وفجأة ومضت في عينيه صورة (ساجدة) و(عدي) الصغير، ولكن أين هما الآن في المرة الأخيرة التي زارته فيها من وراء القضبان سألها عن أحوالها فصمتت. فلما ألح في السؤال قالت له إن أصحاب البيت الذي كانت تستأجره لتقيم فيه مع طفلها ألقوا بأثاث البيت في الطريق، بعد أن عرفوا بأمر القبض على زوجها، وقالوا لها نحن لا نريد أن تسكن في بيتنا عائلة مطاردة سياسيا خشية من السلطة، وظل الأثاث ملقى في الطريق طيلة اليوم. لا يسمحون لها بنقله أو بإدخاله إلى البيت مرة أخرى. وفي النهاية حملت أغراضها ومضت تطرق بيت أبيها هي وطفلها لتقيم فيه حتى يعود الغائب من وراء الغياهب يوما ما. لشد ما تعذبت هي أيضا، ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يتوجه في هذه الساعة ليراها وليرى طفله، حقا إنه الآن حر، ولكن حريته مطاردة، حريته عبء يحمله على كاهله وهو يقطع شوارع هذا السجن الكبير. إنها الحرية المؤجلة مرتهنة حتى تتحطم القضبان، و تنهدم كل الأسوار ويسترد المجتمع كله حريته المغتصبة. إن حريته ليست منفصلة عن حرية المجتمع. حريته هي حرية الناس جميعا. أفاق من تأملاته فجأة وقد وجد نفسه بالقرب من بيت صديق قديم للحزب ظل وفيا لصداقته ولم يرتبط بعضويته أبدا. لعل بيته آمن في هذه الساعات الحرجة. وطرق باب (فاروق عبد سعيد السامرائي) في ساعة العصر من يوم الثالث والعشرين من جويلية 1966. المناضل الذي حطم أغلاله الخاصة ويستعد الآن لتحطيم أغلال المجتمع كله :صدام حسين. ولسوف تبدأ من هذه الساعة ملحمة أخرى من ملاحم حياته، وسيخطو من الآن فصاعدا خطواته الثابتة لإعادة بناء التنظيم الحزبي وتنقية الفكر الحزبي وبعد أن أوشكت العواصف العاتية القادمة من دمشق هذه المرة أن تهزه بعنف وتقتلعه من جذوره. يتبع