لم يكن ما يشغل صدام بعد وصول البعث إلى الحكم هو اللحظة الحاضرة، بل كان دائم التفكير في ما سيكون عليه العراق مستقبلا. ومن هنا كان انتقاده لبعض (المصطلحات الخاطئة) التي تستخدم أحيانا في وصف الثورة مثل وصفها بأنها (ثورة 17 تموز التقدمية) واعتبار صفة التقدمية هي السمة النهائية لها، بينما كان هو يرى الثورة في جوهرها قومية واشتراكية. فوصفها بالتقدمية تقليل من قيمتها ومن جوهرها كثورة مستمرة باتجاه تحقيق أهدافها الاستراتيجية..) كما كان أيضا وصفه للقرار التاريخي بتأميم النفط في العراق – ولقد كان في حد ذاته ثورة – في نفس إطار المفهوم السابق تعبيرا عن نفس المعنى : عندما نتحدث عن قرار التأميم الآن مثلا فإننا نعتز به ونعتبره احد الأعمال العظيمة التي نفخر بها ولكن بعد عشر سنوات من الآن وفي سياق المسيرة اللاحقة لن يحتل ذات الموقع النفسي المؤثر كما هو عليه الآن ولن ترى صورته وطبيعته بنفس الحال الراهنة إذا ما جردناه من ظروفه وأضعفنا صلته بالحياة او قطعناه عن مسيرة الثورة وعن الزمن والتفاعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتصل بهذا القرار... وهو في هذين المثلين – اللذين اقتبسناهما من حديثه – يتحدث عن البعد المستقبلي للحدث أي عن ضرورة عدم العزلة عن المستقبل. و في أمثلة أخرى عديدة أشار إلى البعد الماضي للحدث أي إلى عزلته او عزلة عن ماضيه ان الحديث عن الثورة وعن حزب البعث العربي الاشتراكي لا يكتسب بعده الموضوعي والتاريخي الصحيح ما لم نتحدث عن الصورة السوداء التي سبقت الثورة في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري وانعكاس ذلك على السيادة الوطنية والنضال القومي وحياة الجماهير. لا يمكن فهم الحدث التاريخي او تقويم البطل التاريخي اذن بوضعه بين قوسين بل لابد من فتح السدود المصطنعة أمام صيرورة الزمن غير اننا لا ينبغي ان ننجذب الى لحظة الماضي او الى لحظة المستقبل ونفتقد بعدهما مواضع أقدامنا ان لحظة الحاضر تحظى باهتمامه – وربما باهتمامه الأشد – فبدونهما يفقد الماضي معناه والمستقبل مبرره بل ربما أمكن القول إن صدام حسين من القادة القلائل الذين يلاحظ المرء ان لديهم وعيا واضحا للبعد النفسي في لحظة الحاضر ذلك ان البعد النفسي للأحداث والأشخاص والقرارات جزء لا يتجزأ دائما من حساباته.. تأمل قوله : هناك نوعان من الأمور تجذب الإنسان : ما يؤمن به ولا يراه على الإطلاق و ما يؤمن به ويلمسه باستمرار وضمن حدود معلومة وعندما نتحدث عن شيء مرئي ليس في السماء ولكنه أيضا ليس في اليد فإننا بذلك نسقط تأثير واستخدام ما هو في اليد ونبدو كأننا نتحدث عن شيء مجرد لازال هدفا لم يتحقق بعد.. وشيء كهذا لا يثير الحماس لدى المواطنين بمستوى ماهو ملموس وهو في الوقت نفسه ليس قضية روحية نتعلق بها في مثل هذه الحالة نكون أخطأنا الحساب... يتجلى هذا البعد النفسي على سبيل المثال في نظرة المواطن العراقي الى القطر العراقي فلأن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قومي يناضل من اجل تحقيق الوحدة العربية وتجسيد القومية العربية في دولة عربية واحدة ولأنه يؤمن بان العراق جزء من الأمة العربية وقطر داخل الوطن العربي فان صفة (العراقية) كثيرا ما كانت تتراجع كثيرا إلى الخلف وتنزوي أمام الصفة الأعم و الأشمل وهي العروبة والوطن العربي والأمة العربية. ولكن صدام حسين رجل الحسابات والموازنات النفسية الدقيقة يؤكد بوضوح أننا (يجب أن لا نسقط من الحساب أن نربي (العراقي) على أن يعتز بهذه الرقعة من الأرض (القطر العراقي) التي يعيش عليها والتي هي (دستوريا) وطنه وان يكون مستعدا فكريا ونفسيا للدفاع عنها حتى الاستشهاد لأنها وطنه الملموس والذي يتفاعل معه يوميا بشكل عملي خاص، في حين أن تفاعله مع الوطن العربي هو تفاعل مبدئي عام.. وهذا يعني أننا يجب أن لا نغرق في القومي المبدئي ونترك الوطني المباشر كذلك لا نغرق في الوطني المباشر ونترك الحديث عن مفاهيمنا القومية ومستلزمات النضال لتحقيقها. يتبع