وحدها أم كلثوم تزيل اتعاب اليوم ! ولقد أحرص كل ليلة على سماع أغانيها العذبة!وخاصة تلك التي كتبها رامي ...وخاصة أغنية "ما خطرتش على بالك يوم تسأل عني"التي يعتبرها بعض النقاد من أروع ما غنت أم كلثوم ! فلقد أحب «رامي» أم كلثوم حبا أفلاطونيا؛ أي حبا عذريا وحالة عاطفية بعيدة عن أي مفهوم مادي أو جنسي. قال مرة: «إنني أحب أم كلثوم كما أحب الهرم، لم ألمسه، ولم أصعد إليه، لكني أشعر بعظمته وشموخه، وكذلك هي!». فدعونا نعود إلى هذه القصة الجميلة التي كتب لها الخلود...وأنصح بقراءة هذه القصة مع سماع أغنية "ما خطرتش على بالك يوم" ! الصبُّ تفضحُه عيونُه لما كان يوم الإثنين 21 جويلية 1924 حضر «رامي» من الخارج، وفي يوم الخميس من الأسبوع ذاته، دعاه صديقه «السيد محمد فاضل»، ليسهر معه في حديقة الأزبكية، وفي هذا الليلة.. وللمرة الأولى يستمع «رامي، الذي حرص على الجلوس في الصف الأول، «لأم كلثوم» التي كانت تشدو بدون آلات موسيقية، ما إن فرغت المطربة الشابة يومئذ من الغناء، حتى دنا منها «رامي» ودار بينهما الحوار، بحسب ما حكى ابنه الراحل توحيد لصحيفة وموقع "فيتو": - رامي: مساء الخير يا ستي - أم كلثوم : مساء الخير - رامي: أنا حاضر من غربة ونفسي أسمع قصيدتي. ففطنتْ أم كلثوم، وقالت: إزيك يا سي رامي.. وغنَّت: الصَبُّ تفضحُهُ عيونُه.. وتَنمُّ عن وَجْدِ شجونِه. يكمل «توحيد» في اليوم التالي.. سافرت «أم كلثوم» إلى مدينة «رأس البر»، غير أن نار الحب توهجت في فؤاد الشاعر الواعد، وانتظرها متململا أربعين يوما، أضناه خلالها الغرام وأعياه السهر، وفور عودتها أحيت حفلا في البسفور فهُرع إليها، فما إن رأته حتى غنت للمرة الثانية: «الصب تفضحه عيونه»، تحية منها إليه، بعدها زار «رامي»، رابطا على قلبه بصخر من جلمدِ، وكانت يومئذ مُقبلة على ملء أسطوانات «أوديون»، فراجع لها الأغاني وهذَّب بعض ألفاظها، وكانت أم كلثوم التي شاهدها رامي سنة 1924 لأول مرة فتاة ذات عقال تغني وتبكي وكان شابا شاعرا دفاق المشاعر شجى الحس، وكطبع الحب دائما يبدأ بعطف من الرجل، وينتهي بعطف من المرأة، بدأ حب رامي لأم كلثوم، وبدأت أغانيه لها وللغناء المصري الجديد. «مخطرتش على بالك يوم» يحكي «توحيد أحمد رامي»: «طبعا رامي كان يحب أم كلثوم لكن لم يكن يريد الزواج منها، وقد سألته ذات مرة: لماذا لم تتزوج أم كلثوم؟ فأجاب: «لو تزوجتها هبطل أكتب شعر».. كما تساءل: كيف أسمح لزوجتي أن تقف لتغني أمام الرجال؟! ليجيب على نفسه: «بالطبع كنت سأجعلها تترك الغناء وأمنعها منه، وهذا سيكون أسوأ شيء أفعله للغناء». يستطرد «توحيد»: «والدي كان جادا وصارما في بيته، وكان يفصل بين حياته الفنية وبين حياته الخاصة»، مشيرا إلى أن «أم كلثوم» لم تزر والده في بيته، بدءا من اليوم الذي ارتبط فيه بوالدته. لا يفوت «توحيد» أن يذكر أن والده الذي كتب 137 أغنية ل«أم كلثوم»، جسدت الجانب الأكبر من تراثها الغنائي الخالد، لم يتقاض منها أجرا يوما ما، تعبيرا عن عشقه المتنامي وغير المتناهي لها، الذي دام نصف قرن. آخر أغنية كتبها «رامي» لمحبوبته كانت: «يا مسهرني»، وكانت بمثابة همسة عتاب منه لها، لأنها لم تفكر في زيارته رغم مروره بحالة من الاكتئاب حبسته في منزله فترة طويلة.. تقول كلمات الأغنية: «ماخطرتش على بالك يوم تسأل عني.. دا عنيا مجافيها النوم يا مسهرني» هذه الأغنية الوحيدة التي اهتم فيها «رامي» بالزمن، حتى إنه يقول في موضع آخر: «وهو العمر فيه كام يوم عشان نفضل على دا الحال».. ويعقبه: «وإيه يفيد الزمن مع اللي عاش في الخيال»، وكأنه يريد أن يقول - بحسب ابنه - لها: « أنا وأنتِ كبرنا ولم يعد هناك وقت أن نبعد ولا نكمل صداقتنا التي عشناها 45 سنة» حتى كتابة هذه الأغنية التي عاشت أم كلثوم بعدها 5 سنوات أخرى. قطيعة عاطفية لم تخلُ علاقة «أم كلثوم» بمن يتعاونون معها من الملحنين والشعراء من المشاحنات التي قد تصل إلى القطيعة.. فهل تعكر صفو العلاقة بين «رامي» و«ثومة»؟ يجيب «توحيد»: «حدث ما هو أكثر من ذلك، حتى وصل الحال بأبي إلى تمزيق جميع صور «أم كلثوم» التي كان يعلقها على جدران منزله. ويضيف الإبن: «لأنها قالت له: أنا آسفة أني عرفتك»، وما الذي أوصل الأمر إلى ذلك؟ فأجاب: «في حفل تكريم لعبد الوهاب في دار الموسيقى العربية، وقع سوء تفاهم، سرعان ما تفاقم عندما قالت له: « يا ريتني ما عرفتك يا شيخ»، فوقع كلامها كسكين حاد في قلب والدي». ويتابع: توترت العلاقة بين الطرفين، ودامت شهورا حتى إن «أم كلثوم» كانت تطارد «رامي»، خلالها لتصالحه وكان الأخير يرفض لقاءها، ولم تنته هذه القطيعة إلا بالأغنية التي عبر فيها عن استيائه من تصرفها، وتقول كلماتها: »أصون كرامتي». أصون كرامتي من قبل حبي فإن النفس عندي فوق قلبي رضيت هوانها فيما تقاسي وما إذلالها في الحب دأبي رثاء ثومة في عام 1975، غيب الموت «أم كلثوم»، ليكتئب «رامي» ويكسر قلمه ويهجر شعره، لكن عندما دعاه الرئيس السادات إلى حفل تأبينها في العام التالي، أنتجت قريحته الشعرية أروع كلمات الرثاء، حيث أنشد: ما جال في خاطري أنّي سأرثيها بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها يا دُرّةَ الفنِّ.. يا أبهى لآلئهِ سبحان ربّي بديعِ الكونِ باريها بدا للحضور أن «رامي» لم يكن يرثي حبيبته فحسب، بل كان يرثي نفسه وحاله، ويسدل الستار على قصة حب أسطورية تستعصي على التكرار من جميع أطرافها، من رجل لا يضن بحبه على امرأة لا تبادله حبا بحب، حتى بعدما قضت نحبها وزوجة لا تغار، ولا تغضب من صور حبيبة زوجها التي تملأ جدران منزلها، بل تعلن أمام الجميع أنها تحب أم كلثوم كما يحبها «رامي وظل «رامي» مخلصا في حبه خلال سنوات أخرى قضاها بعد رحيلها، كان يردد كلما أضناه الشوق: كيف أنسى ذكرياتي، وهي أحلام حياتي؟ ...ولقد كانت ام كلثوم تقول عن ر امي "إنه شاعري يحترق لينير طريقي" ! ولقد ظل رامي يحمل خاتما أهدته إليه أم كلثوم عليه أحرف اسمها باللغة الإنقليزية ...لم يخلعه من إصبعه حتى موته !... وزمان يا فن وزمان يا حب !